تاريخ التأريخ الشفويّ..تطور وتاريخ المفهوم

مهام التاريخ الشفويّ

يُعدّ التاريخ الشفويّ مكمّلاً للتاريخ المكتوب بما يحمله من تصحيحات مباشرة لأحداث تحتاج إلى مصداقيّة في روايتها، وبما يفسح من مجال لاستكمال الرؤية المعرفية التاريخيّة من خلال ما يضيفه من شهادات مهمَّشة أو منسيّة، وعبر توسيعه لحقول البحث التاريخيّ، ليشمل طبقات اجتماعيّة مختلفة ومواضيع كانت تطرح فقط في أطر العلوم الأخرى. بالمقابل، للتاريخ الشفويّ عثراته أيضاً، إذ لا بدّ من التأكّد من أنّ رواية الشاهد أو المشارك في الحدث الذي يروي أحداثه، قد نُقلَت بأمانة أو أنه لم يخطئ في بعض النقاط أو الملاحظات. ومن هنا أهميّة التاريخ الشفويّ بتكامله مع التاريخ النصيّ. لكن هل يمكن فعلاً نقل الرواية أو الحدث دون تشويههما، أي دون نقلهما في صيغة مشخصنة أو من وجهة نظر الراوي على الأقل؟ هنا تكمن إشكاليّة التاريخ الشفويّ تحديداً.

هذه الإشكاليّة طرحها مفكّرون وفلاسفة كثيرون سابقاً، وخاصة كانط، إذ أشار إلى أن الشاهد يميل دائماً إلى إخضاع روايته للماضي وفق ذوقه أو أفكاره الشخصيّة. من هنا نشأت الفكرة المبدعة التي اقترحها غي تويلييهGuy Thuillier منذ العام 1976 والتي تقول باستبدال مفهوم “التاريخ الشفويّ” المستخدم في الولايات المتحدة منذ بدء العمل به في جامعتي شيكاغو وكولومبيا، بمفهوم “الأرشيف الشفويّ”، وذلك للتخفيف من حدة هذه الإشكالية في تحريف التاريخ المرويّ عبر رواته، والارتكاز بالتالي على الوثيقة التي يمكن العمل عليها من الباحثين لتوطين الخلاصة التاريخيّة المستقاة منها، اعتماداً على الدراسة المقارنة لها، وبالتالي توفير الوسائل لتناول أكثر موضوعيّة للماضي. وقد استلهمت هذه الفكرة ووضعت لها الإطار النظري والتطبيقي دومينيك شنابر D. Schnapper، في إطار الهيئة الفرنسية للتاريخ والأمن المجتمعيComité d’histoire de la Sécurité sociale. عملت بعد ذلك فلورانس ديكامبF. Descamps وغيرها على بلورة وتطوير هذه الأعمال. تمثّل هذه المبادئ اليوم معلماً أساسياً لتطوير الأبحاث والمناهج في التوثيق الشفويّ.

حول تاريخ التأريخ الشفويّ

كان التأريخ المدوَّن في الحضارات القديمة يعتمد على مصادر متنوعة من المعلومات، ولم يكن النص المكتوب يتفوق فيها على المصادر الأخرى. فالمؤرّخ هيرودوت (484 ـ 425 ق م) اعتمد على شهادات شفويّة وشهود عيان لكتابة تاريخ الحروب الميديّة. أما ثوسيديد (470 ـ 395 ق م)، فقد طوّر منهج التأريخ بالاعتماد على الرواية الشفويّة في مقدمة كتابه حول حروب البيلوبونيز. بعد ثلاثة قرون، أعلن المؤرخ الروماني بوليب (208 ـ 126 ق م) عن تفوّق الشهادة المباشرة على المصادر النصيّة وضرورة قيام المؤرّخ ببحث “ميداني”. وقد تعمّم هذا المنهج طيلة قرون تالية مع مؤرّخي روما الجمهوريّة ثم الإمبراطوريّة، حتى نهاية القرن الرابع الميلادي تقريباً، إذ اعتمد المؤرّخون على شهادات معاصريهم، وقد شغفوا بكتابة التاريخ المباشر للفترة التي عاشوها.

في العصور الأوروبية الوسطى، تأثّرت الكتابات التاريخيّة بالبعد المسيحيّ من جهة، والتوجّهات الملكية لبناء الدول والإمارات الأوروبيّة من جهة أخرى. أدّى ذلك إلى تراجع التأريخ، فأصبح يُستخدَم في اللاهوت والحُكْم، وكان لا بدّ من إعادة اكتشاف الفلسفة الإنسانيّة، في القرن السادس عشر، ليبدأ “التاريخ” رحلته نحو المنهجيّة العلميّة.

أما تطوّر البحث التاريخي في الحضارة العربيّة فقد سار وفق مسارين، الأول، تَمثّلَ النمط التأريخي اليوناني / الروماني السابق، والآخر اعتمد بشكل أساسي على النقل عن السابقين، وقد طغت هذه الطريقة الأخيرة على الأولى لما في النمط الثقافي العربي من خصوصيّة الثقة أو تفضيل شهود العيان على المصادر المكتوبة. وهذا ما تؤكّده المقولة المأثورة: “كان الشعر علم قومٍ لم يكن لهم علمٌ أصحّ منه”. فقد كان الشعر ديواناً شفوياً للعرب يسجّل مآثرهم وأخبارهم وأيامهم وأمثالهم ومثالبهم. واستمرّت هذه الخصوصيّة للتوثيق بعد ظهور الإسلام من خلال تدوين القرآن الكريم أولاً ثم تدوين أحاديث النبي الكريم ثانياً وما تضمنه هذا التدوين من عمليات الجمع والتحليل والتحقيق والمقارنة، الأمر الذي عكس تطوّراً في الوعي بأهميّة التراث الشفوي وحفظه وتدوينه. لتصبح الرواية الشفوية أحد مصادر التوثيق التاريخي عند المؤرّخين العرب والمسلمين في نقلهم لمعارفهم وحياتهم إلى من يليهم من أجيال، وتشهد على ذلك سلسلة “العنعنات” أو الأسانيد الطويلة التي يسردها المؤرّخ قبل كتابة الخبر الذي نقله عنهم. يشترك في هذا المقام عدد كبير من المؤرّخين المسلمين، الذين اعتمدوا اعتماداً كبيراً على التأريخ الشفهي؛ فدوّنوا معظم كتاباتهم من أفواه الناس والرواة المعاصرين للاحداث، ونذكر منهم على سبيل المثال، كتّاب السير، والمعارك الإسلامية كالبلاذري، ومعاصري الحروب الصليبية كإبن منقذ في مذكّراته المسمّاة “الاعتبار”، وغالبية كتّاب الرحلات كالمقدسي، والإدريسي، وابن بطوطة، وكتّاب التاريخ العام، كالطبري، والمقريزي في سلوكه، وابن تغري بردي في كتابه “النجوم الزاهرة في أخبار مصر والقاهرة”، وما دوّنه محمد ابن إياس في كتابه “بدائع الزهور في وقائع الدهور”، والأمير حيدر الشهابي في كتابه “الغرر الحسان في تواريخ أهل الزمان” ،المعروف باسم “تاريخ الأمير حيدر الشهابي”، وطنوس الشدياق في كتابه “أخبار الأعيان في جبل لبنان”، وشيخ المؤرّخين المصريين عبد الرحمن الجبرتي في كتابه “عجائب الآثار في الوقائع والأخبار” المعروف باسم “تاريخ الجبرتي”[1] … الخ.

مطلع عصر النهضة

لقد فضّل بحّاثة القرن السابع عشر في أوروبا النصوص الأصليّة على الروايات العجائبيّة أو الحكايات المرويّة. مع ذلك، لم تستبعد طرائق البحث المطبّقة على النصوص القديمة الشهادات الشفويّة والمرويّات استبعاداً كاملاً. بالمقابل، رفض المؤرخون في تلك الفترة التقليد الشفويّ الذي اعتمد على النقل عن مصادر سابقة غير مؤكَّدة أو غير موثَّقة بالمقارنة أو بالإثبات التاريخيّ، والتي تكون صياغتُها على نحو “يقال إنّ” أو “لقد رُوي دائماً أن”… إلخ، فهو تقليد لم يُقبل في دراسات الباحثين بل استُهدِف بالنقد مع كلّ ما رافقه من تضليل.

ترافقت حركة إخضاع التاريخ هذه للفكر والتوثيق النصيّ والبحثيّ مع الحركة العلمانية التي تمثّلت في مأسَسَة الدولة، وهو ما ترافق مع إنشاء مؤسّسات بحثيّة وعلميّة وأكاديميّة وأرشيفيّة. كانت كافة هذه المؤسّسات الخاصة تُعنى في آن واحد بالحقوق والذاكرة والبحث التاريخيّ وتعمل في خدمة البلاط، لإبراز عظمته وتأسيس سلطة الدولة.

في مطلع القرن التاسع عشر، بدأت تظهر، كما في فرنسا وقبلها في إنكلترا، مراكز الأرشيف الوطني. وهكذا، ولدت مهنة جديدة هي مهنة المؤرشف التي تتأسّس على تأهيل علميّ أكاديميّ. مع ذلك، استمرّ المؤرّخون الرومنطيقيون المتأثّرون بالثورة الفرنسيّة بتقصّي شهادات الشهود العيان من معاصريهم. لكن لم يطل الأمر بهذه النزعة التاريخيّة الرومانسيّة، فقد عادت المدرسة الفرنسية التاريخيّة لتؤسّس هويّتها العلميّة على مناهج التاريخ التقليديّة، التي تعود إلى الإرث البحثيّ في التاريخ من القرن الثامن عشر. فتمّ التركيز من جديد على النصّ، فالنصّ هو بداية التأريخ العلميّ والمنهجيّ ونهايته. مع ذلك، لم يستطع مؤرّخو هذه المدرسة أن يرفضوا تماماً اللجوء إلى شهود العيان، إنّما حدث هذا على هامش البحث التاريخيّ. وقد ترافق هذا التهميش بنقد لطرائق نقل المعلومات الشفويّة ولمحتوى التقليد الشفويّ.

هذا كان حال التقليد الشفويّ في مطلع القرن العشرين وخلال العقود الأولى منه. لكن النقد الموجَّه لآلياته سيزول ويتلاشى بعد العام 1945، مع اختراع الحاكي والأشرطة المغنطيسيّة التي ستسمح بـ “تثبيت” الشهادات الشفويّة، مما يجعلها دائمة وقابلة للنقل والدراسة والتحقّق. وسرعان ما بدأت تتطوّر مواضيع هامة، بالنسبة للتوثيق الشفويّ، تتعلّق بالسرّية والخصوصيّة وغير ذلك، في إطار توصيف الموضوع التاريخيّ، ما فتح الطريق لإعادة دمج المصادر الشفويّة في المصادر التاريخيّة لتشكيل علم تاريخ جديد.

نشأة “التاريخ الشفويّ” في أمريكا وانتشاره في أوروبا خلال القرن العشرين

بدأت، منذ العام 1860، أعمال جمع الشهادات الشفويّة على مستوى واسع، على الساحل الكاليفورني، من أجل ردم فجوة غياب المصادر المكتوبة والأرشيفات الإداريّة. ترافقت هذه الحملة بجمع منهجيّ للوثائق النصيّة من كل نوع، بما في ذلك أرشيفات العائلات والشركات… إلخ، وكذلك بحملة نسخ للوثائق التاريخيّة التي لم يكن بالإمكان شراؤها أو جمعها. ويُعدّ ليمان كوبلاند درابر أبا التوثيق الشفويّ الأمريكي، وقد جمع، في العام 1840، ذكريات الجنود السابقين في الثورة الأمريكية وأوائل مستكشفي الغرب الأمريكي، وهي مواد تركها للجمعيّة التاريخيّة في ويسكنسن.

سرعان ما انتظمت هذه البدايات للتوثيق الشفويّ في أمريكا وفق محورين، بدأ أحدهما مبكراً في مطلع القرن العشرين، وتأخّر الثاني حتى ما بعد الحرب العالميّة الثانية، وهو ما أنتج “مدرستين” في الفكر والممارسة، هما أصل “التاريخ الشفويّ” في الولايات المتّحدة الأمريكية. هاتان المدرستان هما مدرسة شيكاغو ومدرسة جامعة كولومبيا.

طوّرت مدرسة شيكاغو نموذجاً للبحث التاريخيّ الميداني، يرتكز على المقابلات والروايات التي تحكي تاريخ حياة. ارتكزت منهجية روبرت بارك من هذه المدرسة على قاعدتين: أولاً، المراقبة المباشرة وجمع المعطيات مباشرة، ما أدّى إلى تشكيل ملف وثائقي مفصّل ومرتبط بيوميّات البحث؛ وثانياً استخدام طريقة السيرة الذاتية، وسيلةً لمعرفة معمَّقة للواقع الاجتماعي قبل القيام بالتحليل والتفسير. وكان ذلك يعني الخروج من المكتبات لمواجهة العالم الحقيقي ودراسة تنوّع المجتمع وديناميكيّته. وفي مدرسة شيكاغو أيضاً، ميّز وليام توماس وظيفتين في استخدام طريقة السير الذاتيّة: الجمع الموسَّع للعديد من الروايات لرسم محيط وتفاصيل مجموعة من الأشخاص أو السكّان، والسير الذاتيّة المكثّفة والمعمَّقة والمفصّلة والمتعارضة أو المتقاطعة.

أما قسم التوثيق الشفويّ في جامعة كولومبيا فأسسه آلان نيفينز Allan Nivensالذي أدرك أهمية “إنشاء منظّمة تبذل جهوداً منهجية للحصول على توثيق شفويّ أو كتابي من الأمريكيين الأحياء، الذين كانوا شهوداً على مرحلة تبيّن مساهمتهم في الحياة السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية”، وهذا ما يسدّ الفجوات الكثيرة في النصوص والمصادر، وهذا ما أصبح فعلاً قسم التاريخ الشفويّ في جامعة كولومبيا الذي تم إنشاؤه في العام 1948 بإدارة آلان نيفينز ولويس ستار.

بدأت أولى التسجيلات في العام 1949 مع اختراع أجهزة الحاكي التسجيليّة. وكانت عبارة عن سير ذاتيّة، وتمّ تفريغ هذه السير ونسخها وكتابتها بشكل منهجيّ. شمل برنامج المقابلات النخب السياسيّة والثقافيّة، إضافة إلى نخبة الاقتصاديّين والعسكريّين والعلماء. وفي العام 1975 بلغ عدد صفحات المقابلات في قسم التاريخ الشفويّ في جامعة كولومبيا 425000 صفحة، تفريغاً من تسجيلات لـ 3500 شاهد ونحو 15000 ساعة تسجيل. وهكذا، أصبحت كولومبيا نموذجاً لجامعات أخرى منذ الخمسينيّات والستينيّات مثل جامعات تكساس وبركلي ولوس أنجلس. في العام 1954، كان عدد مراكز التاريخ الشفويّ في أمريكا أربعة مراكز، وأصبح 316 مركزاً في العام 1973، وتجاوز الألف في العام 1977. نشرت المراكز الأساسية، بدءاً من الستينيّات، تقاريرها عن نشاطاتها وفهارسها (كولومبيا، بركلي…) كما تمّ نشر أوّل دليل منهجي للتوثيق الشفويّ في العام 1966.

ما يميّز مدرسة كولومبيا عن مدرسة شيكاغو هو الاهتمام بإنشاء أرشيف بالدرجة الأولى، وبوضع قواعد صارمة جداً على عملية التفريغ والنقل، ومعايير دقيقة لتسمية المصدر النصيّ، الناجم عن المصدر الشفويّ، بالمصدر العلمي. كما تميّزت بتصنيف الوثيقة وفهرستها وإكمالها بوثائق نصيّة أو تصويريّة، وصولاً إلى إنتاج ملفّ توثيق شفويّ يوفّر مادّة موثَّقة للمؤرّخين في المستقبل.

عودة إلى أوروبا

عاد الاهتمام بالتاريخ الشفويّ إلى أوروبا بعد النتائج الهامة التي تحقّقت في أمريكا، خاصة مع التطوّرات التي حدثت بعد الحرب العالميّة الثانية. ونستطيع متابعة تطوّر التأريخ الشفويّ في إنكلترا وألمانيا وإيطاليا وغيرها، وخاصة في فرنسا، كي ندرك أن مدارس التأريخ الشفويّ على اختلافها أصبحت جزءاً لا يتجزّأ من علم التأريخ المعاصر. ونسلّط الضوء على تطور التأريخ الشفويّ في بريطانيا، على سبيل المثال.

كشف انعقاد المؤتمر الدولي الثاني للتاريخ الشفويّ في إنكلترا، في العام 1978 (عقد المؤتمر الأول في بولونيه الفرنسيّة في العام 1976)، عن وجود تاريخ شفويّ بريطانيّ خاص، كان اهتمامه الرئيسيّ هو تاريخ الطبقات الشعبيّة. وقد ازدهر في بريطانيا تيّار ريفيّ وعمّالي في آن واحد، غير جامعيّ وغير أكاديميّ أيضاً، خلال خمسينيّات القرن العشرين، وارتكز على أعمال ديالكتيكيّين كانوا قد تزايدوا منذ الثلاثينيّات، وعلى كتابة “تواريخ القرى”.

التقى هذا التيّار خلال الستينيات بتيّار آخر أكثر أكاديميّة وجامعيّة، وكان مستلهَماً من أعمال ريتشارد هوغار حول “ثقافة الفقر”، ومن أعمال بول تومسون الذي عمل على تأهيل الطبقة العمّالية الإنكليزيّة. وقد نجح هذا الأخير، مبكراً، في وضع مناهج كميّة للتاريخ الاقتصاديّ والاجتماعيّ في زمنه، واختار الاهتمام بالأفراد أنفسهم، العمّال الحقيقيين. كان اللجوء إلى المصادر الشفويّة في مثل هذا البرنامج أمراً أساسيّاً. وهكذا، فقد تشكّلت مجموعات مدرَّبة ومؤهَّلة من المؤرّخين وعلماء الاجتماع والأنثروبولوجيّين، فعملوا على تأسيس “تاريخ مختلف” اجتماعي، يشمل العمل والنساء والتسالي والثقافة… إلخ، وذلك على أساس التاريخ الشفويّ وتاريخ الحياة… كان الجانب السياسي من هذا التوجّه الذي عرف بـ Workshops History هو إرجاع الكلمة للشعب وجعل التاريخ الرسميّ تاريخاً ديمقراطيّاً متمايزاً، مثله مثل تاريخ النخب. لهذا، كان التاريخ الشفويّ البريطانيّ تاريخاً شعبويّاً.

لم يهمل التاريخ الشفويّ البريطاني، مع ذلك، أعلى الهرم الاجتماعي، فكان هناك قطاع نشط جداً اهتمّ بشهادات شفهيّة من النخب الاجتماعيّة والسياسيّة، وقطاع اهتمّ بتاريخ المشاريع والشركات. وفي مجال السياسة والاقتصاد، تأسَّس الأرشيف الشفويّ البريطاني للتاريخ الإداري British Oral Archive and Administrative History في مطلع الثمانينيّات، وهو محفوظ في مكتبة London School of Economics. وقد توالت معه أيضاً أرشيفات تخصّصيّة كثيرة غطّت معظم قطاعات الحياة البريطانيّة.

التأريخ الشفوي العربي المعاصر[2]

ارتبط الاهتمام بالتأريخ الشفوي أولاً بنكبة 1948 واستمرار التهجير الفلسطيني والأزمة الفلسطينية إلى الجيل الثالث والرابع. ونتج هذا الاهتمام عن رغبة الفلسطينين في إقامة صلة بالأرض وأهلها المشتتين. كما ولّد رحيل الجيل القديم، الذي يتذكّر الحياة في فلسطين قبل النكبة، إحساساً بضرورة حفظ التاريخ والتراث وترسيخ هويّة الممانعة.

ليمتدّ الاهتمام بعد ذلك بالتأريخ الشفوي عموماً على أكثر من مركز بحثي في العالم العربي وفي هذا نذكر على سبيل المثال: مشروع “اللاجئون الفلسطينيون وتوثيق التاريخ الشفوي” التابع لمؤسسة القدس للثقافة والتراث، ومشروع “التاريخ الشفوي” التابع لهيئة الوثائق والمحفوظات في سلطنة عمان، ومؤتمر بيروت حول “التاريخ الشفوي” التابع للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ومركز التاريخ الشفوي بكلية الآداب بالجامعة الإسلامية بغزة، والمركز الوطني للدراسات والبحث في الحركة الوطنيّة بالجزائر لتسجيل التاريخ الشفوي، ومؤسّسة وثيقة وطن في سورية.

وفي هذا السياق نشير إلى أن بعض الدول العربية بدأت منذ إعلان اليونسكو عن قائمة التراث اللامادي العالمي تهتم بوضع تراثها اللامادي والشفوي على هذه القائمة، ويمكن أن نورد الموضوعات التي سجلتها بعض بلدان العالم العربي على قائمة اليونسكو للتراث الشفهي اللامادي للإنسانية: الأردن: الحيز الثقافي لبدو البتراء ووادي رم؛ الجزائر: أهليل قورارة، والزاوية الشيخية والمراسم المتعلقة به، والعادات والمهارات الحرفية المرتبطة بزي الزفاف التلمساني (في ولاية تلمسان)، وعادات وطقوس ومراسم السبيبة او الصبيبة في واحة جانت، وركب أولاد سيدي الشيخ / الجزائر. وسلطنة عمان: البرعة؛ والعراق: المقام العراقي؛ وفلسطين: الحكاية الفلسطينيّة؛ ومصر: محلمة السيرة الهلاليّة؛ والمغرب: موسم طانطان، ومهرجان حبّ الملوك في مدينة صفرو، وعادات ودْراية بشأن شجرة الأرغان، ولحميّة المتوسطيّة، والفضاء الثقافي لساحة جامع الفنا في مراكش؛ واليمن: الغناء الصنعاني؛ وموريتانيا: التهيدين (الأدب الملحمي في الشعر الشعبي الموريتاني)، وملحمة تحي الدين الموريسكي.

التحوُّل من التاريخ الشفويّ إلى الأرشيف الشفويّ

ترافقت عودة الاهتمام بالتاريخ الشفويّ في أوروبا بتساؤلات جوهريّة حول الذاكرة والهويّة والوعي القوميّ والوطنيّ، وغذّى ذلك الاحتفال بذكريات عديدة لتاريخ علماء وفنّانين أسّسوا النهضة والأنوار الأوروبيّة، وخاصة بمرور قرنين على الثورة الفرنسيّة. وبدأت المؤسّسات والشركات، هي أيضاً، تتساءل في لحظة الذاكرة هذه عن هويّتها وتاريخها. ومنذ بداية الثمانينيّات، بدأ الجميع يتساءل حول المستقبل، فزاد الاهتمام بالماضي والبحث في الذاكرة والتاريخ الخاص، وبفهم معمَّق لهما.

أدّى ذلك إلى تطوّر تأريخ الشركات والمؤسّسات في المؤسّسات نفسها، وتضاعف عدد الجمعيّات واللجان المختصّة بالتاريخ الشفويّ في كبرى الإدارات وفي الوزارات أيضاً في الدول الأوروبية. ولعبت هذه الأخيرة دوراً هاماً في دمج الأرشيف الشفويّ في التراث المؤسّساتيّ، وفي الدمج النهائيّ لأرشيفها ضمن المصادر التاريخيّة. وتُعَدّ هذه المرحلة فاتحة العلوم الجديدة التي اختصّت بالأرشفة الشفويّة وقواعد المعطيات الناتجة عنها والتأسيس لعلم الأرشيف الشفويّ المعاصر.

يمكن القول إن إعادة إدخال المصدر الشفويّ في الدراسة التاريخيّة، تمّ التحضير له عبر فترات طويلة، وبشكل معمَّق، عبر زعزعة الأسس الفلسفيّة والإبستمولوجيّة “العلمويّة” التي كانت تؤسِّس للمدرسة التاريخيّة الفرنسيّة، وذلك في شقَّيها: التاريخ التقليديّ المسمّى “الوضعيّ” أو “المنهجيّ”، والتاريخ الكمّيّ المعروف بالحوليّات. وأدّت النقاشات والجدالات، التي تطوّرت منذ نهاية الستينيّات، في مجال فلسفة التاريخ، إلى إعادة تقويم روايات الرواة وكلماتهم، وردّ الاعتبار للشهود الفرديين في القراءة التاريخيّة.

جاء التحوّل الكبير في دراسة التأريخ والأرشيف الشفويّين، في العقد الأخير من القرن العشرين، مع تقديم عدّة أطروحات أكّاديميّة لمناهج بحث ارتكزت على مشاريع واسعة أو على دراسة محدَّدة لجانب من مجالات التوثيق الشفويّ (المنهج، التجهيزات التقنيّة، البرمجيّات، التصنيفات…). من جهة أخرى، كان لارتباط التوثيق الشفويّ بهيئات للتاريخ الشفويّ عظيم الأثر في إنتاج مراجع ودراسات بحثيّة وتوصيفيّة وتاريخيّة حول الأرشفة الشفويّة، الأمر الذي عزَّز في النهاية جذب هذا التيّار التاريخيّ للجامعات والبحوث الأكاديميّة.

ويمكن القول إن العقد الأخير من القرن العشرين شهد نسبيّاً وضع الأسس النظريّة والتطبيقيّة للتوثيق الشفويّ، ومهّد بذلك لإعلان اليونسكو في العام 2003 عن لائحة التراث اللاماديّ والشفويّ للعالم.

ومع تعدّد المدارس والاتّجاهات الحديثة في التأريخ الشفويّ المعاصر، فإنّ كافة هذه المدارس تتّفق على أهميّة الآليّات الرئيسيّة التي تمّ التوصّل إليها، حتى الآن، في جمع وتوثيق وأرشفة وبناء قواعد بيانات للذاكرة الحيّة.

[1] أضاف هذه الفقرة حول التأريخ الشفوي في الحضارة العربية من د. محمد الطاغوس.

[2] أضاف هذه الفقرة حول التأريخ الشفوي العربي المعاصر د. محمد الطاغوس.

 

إعداد: موسى الخوري

المزيد..