ميزات التأريخ الشفوي:كتاب باليمين والشمال – النساء العربيات يتحدّثن عن أنفسهن أنموذجاً في التأريخ الشفوي

تهدف هذه الورقة إلى إيضاح ميزات التأريخ الشفوي من خلال عرضها في واحدة من أهم وأولى الدراسات في مجال التأريخ الشفوي في العالم العربي، وهو كتاب “باليمين والشمال – النساء العربيات يتحدّثن عن أنفسهن” للكاتبة والباحثة الدكتورة بثينة شعبان، الذي اعتمد منهج التأريخ الشفوي لتوثيق تجارب نساء من عدة دول عربية. وتأتي أهمية هذه الدراسة من كونها تختص في مجال لطالما تم تهميشه عربيَاً وهو دراسات المرأة، كما أنها صدرت في فترة لم يسلط فيها الضوء على مواضيع مماثلة تخصّ المرأة، واتبعت منهجاً كان ولايزال نادراً في العالم العربي ألا وهو منهج التأريخ الشفوي (الخوري، 2018).

انطلقت فكرة الكتاب من رغبة الكاتبة في توثيق تجربتها عبر مخطوطة توثق ما عايشته امراة عربية في الغرب، تحديداً في المملكة المتحدة عقب حصولها على الدكتوراه سنة 1982. كان قد دفعها إلى ذلك واجب وطني رأت من خلاله نفسها سفيرة تمثل بلدها وغيرها من النساء العربيات (شعبان، a2018) لتبدأ قصة كتاب يتألف من 250 صفحة تقريباً وباللغة الانكليزية، ويحمل في طياته تجارب عدّة نساءٍ ناضلت كلُّ منهنّ على طريقتها، وتردّ فيه على كل ما طرحه القارئ الغربي عليها من أسئلة بصفتها امرأة عربية. وعلى إثر ذلك وافقت دار النشر آنذاك، Women’s Press، على نشر كتاب يتناول واقع المرأة العربية المعاش دون التدخل في تفاصيله، موكلةً إليها مسؤولية نقل الواقع بكل صدق وأمانة ومن وجهة نظر عربية. ولكونها باحثة وأستاذة جامعية درست ودرّست في عدة دول عربية وأجنبية، كانت الطريقة التي اعتمدتها الكاتبة هي توثيق تجارب نساء عربيات بأصواتهنّ، فبدلاً من جمع المعلومات عنهنّ، آثرت الكاتبة أن توفر لهنّ منبراً يوصل أصواتهنّ وكلماتهنّ إلى العالم كي لا تكون هي من تملي تجربتها عليهنّ، فجاء الكتاب يصف تجاربهنّ على لسانهن على اختلاف شرائحهن، وكان وسيلة لإيصال هذه الأصوات ونقل هذه التجارب للغرب معتمداً مبدأ التأريخ الشفوي منهجاً للبحث العلمي، وإجراء المقابلات طريقةً لجمع البيانات، وهو ما فضلّت الكاتبة استخدامه كي لا تكون البيانات التي تقوم بجمعها آلية وخالية من البعد الإنساني، كما هو الحال عند توزيع استمارات استبانة لاستكمالها، فاختارت طريقة تتضح فيها حرارة اللقاء والحوار بين الأشخاص، وتكون هذه العناصر جزءاً لا يتجزأ من عملية تأريخ قصص النساء، وتمكن من التأريخ بالطريقة المثلى (شعبان، a2018).وعليه صدر هذا الكتاب سنة 1988، بعد أربع سنواتٍ من العمل عليه، ليمثل تجربة حقيقية لامرأة عايشت فترة السبعينيات من القرن المنصرم، وزمن التحرر النسائي وعلى الأخص غرباً حيث شهدت مسيرات نسائية تنادي بالمساواة، وصدورعدة قوانين تضمن حقوق المرأة مثل قانون العمل والتدريب والتعليم، ويؤرّخ، في الوقت نفسه، تجربة العديد من النساء العربيات، وتتماهى فيه تجربتها مع تجاربهم، لينتج عن ذلك مخطوطة تمثّل تجربة نساء من عدة بلدان عربية. هذا وقد حوّل الكتاب إلى فيلم ونال جائزة السعفة الذهبية كأفضل فيلم عن كل فئات الأفلام في مهرجان بيفرلي هيلز السينمائي الدولي، وذلك بعد 20 عاماً من نشر الكتاب.وبالإضافة إلى ذلك، تكمن أهمية هذا الكتاب في هذه المرحلة من كونه يعكس واقع المرأة في مرحلة سبقت مرحلة الحرب التي مرت فيها سورية، والتي بدأت عام 2011، بعقود من الزمن، وكانت من أوائل تجارب التأريخ الشفوي، وصدرت في وقت لم يكن هناك وعيُ كافٍ لماهية التأريخ الشفوي في العالم العربي، مما يجعله مرجعاً ليس في الدراسات النسوية فقط، بل أيضاً في مجال التأريخ الشفوي، ومنطلقاً لتوثيق تجارب نساء سوريات وعربيات، ومصدراً لأي باحث مهتم بدراسة الوضع الحالي مقارنة بالوضع السابق، وإحياء مشاريع التأريخ الشفوي القليلة في العالم العربي (أبو الريش: 2015)، كي تضيف نوعاً جديداً من المعلومات للجمهور العربي، تماماً كما أضاف هذا الكتاب للجمهور الغربي الذي كان يدرس ويكتب عن بقية العالم (Golley, 2003: 91) . وتكمن القيمة المضافة للكتاب في أنّه الكتاب الوحيد الذي يوثق معلومات عن حياة ومشاعر وطموحات عدد من النساء اللاتي قابلتهنّ الباحثة، مثل مقبولة الشق التي لم تتجاوز المدة بين مقابلتها ووفاتها الأسبوعين، وثريا الحافظ، وكانت في سن متقدمة وتوفيت بعد فترة قصيرة (شعبان، a2018).

وعليه، وقبل مراجعة هذا الكتاب من منظور علمي أساسه التأريخ الشفوي، بناءً على الخصائص التي عرضها وحددها رائد التأريخ الشفوي أليساندرو بورتيلي، تستعرض هذه الورقة الجهود العربية المبذولة في مجال التأريخ الشفوي. مشاريع التأريخ الشفوي في العالم العربي:بدأت العديد من الدول العربية العمل على مشاريع للتأريخ الشفوي ومنها فلسطين ومصر والمغرب ولبنان والأردن والسودان وليبيا وتونس. في فلسطين، على سبيل المثال، ينظم مركز التاريخ الشفوي في الجامعة الإسلامية في غزة، الذي تأسس عام 1988، ورش عمل ودورات تدريبية بهدف توثيق التراث الفلسطيني، بينما نشرت الروائية الفلسطينية سحر خليفة عبر مركز شؤون المرأة والاسرة، الذي أسسته سنة 1988 وتولت إدارته، العديد من المقابلات التي أجرتها مع نساء فلسطينيات خلال فترة الانتفاضة الفلسطينية (1987-1991) لمراجعة ما كتب عن دور المرأة الفلسطينية في الانتفاضة، وفي عام 2015، نشرت الباحثة والمؤرخة فيحاء عبد الهادي مؤلفها “أدوار المرأة الفلسطينية منذ منتصف الستينيات حتى عام 1982” سنة 2015، الذي وثق تجربة ودور المرأة الفلسطينية بين عامي 1965-1982، وصدر عن مركز المرأة الفلسطينية للأبحاث والتوثيق، وبدأ المشروع عام 1998، ويتضمن 50 مقابلة مع نساء فلسطينيات من داخل فلسطين والشتات (الأردن، سوريا، لبنان، مصر)، فيما يوثق كتاب “النساء الفلسطينيات” للباحثة الفلسطينية فاطمة قاسم الذي نشر سنة 2011 والمبني على أطروحة الدكتوراه تجارب نساء فلسطينيات ونظرة النساء الفلسطينيات في حقبة إعلان قيام الكيان الصهيوني عام 1948، ويتضمن 37 مقابلة مع نساء من الرملة واللد، ويدرس أثر النكبة عليهنّ، وفي فلسطين أيضاً، وتعمل جمعية “تنمية وإعلام المرأة” (تام) غير الربحية وغير الحكومية، والتي تأسست عام 2003، على تدريب إعلاميين في الضفة الغربية لإجراء مقابلات بغرض إنتاج أفلام وثائقية تبرز ريادة النساء الفلسطينيات ودورهنّ المتميز في مجالات متعددة منها السياسة والاقتصاد والمجتمع.

في مصر، وفي عام 1982، قامت الباحثة نيرة عطية بنشر كتابها “خلخال: خمس نساء مصريات يروين قصصهنّ” باللغة الانكليزية والذي يتضمن مقابلات تم تسجيلها وترجمتها إلى اللغة الأجنبية عن سيرة حياة النساء الخمس في تلك الحقبة، بينما تقوم في الوقت الحالي مجموعة من الباحثين في مؤسسة “المرأة والذاكرة”، التي تأسست عام 1995، بالعمل على مشروع “أرشيف التأريخ الشفوي للنساء” لتوثيق تجارب النساء من مختلف الأعمار ممن عشن تجارب مختلفة، والهدف منه ليس فقط توفير معلومات للباحثين والمهتمين، بل أيضاً دعم وتمكين النساء وأرشفة الوثائق ضمن أرشيف رقمي.

وفي المغرب، صدر كتاب “خوض معركة يومية: مقابلات مع نساء مغربيات” باللغة الفرنسية سنة 1988، وترجم إلى اللغة الانكليزية، قابلت فيه الباحثة فاطمة المرنيسي نساء مغربيات من مختلف أنحاء المغرب ومن مختلف الأجيال والطبقات، بينما قامت هيئة الإنصاف والمصالحة في المغرب عام 2005 بتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان من رجال ونساء التي جرت بين عامي 1956 -1999 لدراسة الأسباب والنتائج، وذلك بهدف التصالح مع الذات الوطنية والتاريخ، فيما وثّقت أعمال أخرى النضال ضد الاستعمار الفرنسي مثل كتاب “البوادي بالمغرب: قبائل في مواجهة الاستعمار الفرنسي من خلال الرواية الشفوية “البرانس نموذجا”، الذي صدر سنة 2014، كما وصدرت في تونس أعمال مماثلة مثل كتاب “الفلاّقة واليوسفيّة من خلال المصادر الشفويّة” سنة 2017، الذي وثق تاريخ الجنوب الشرقي التونسي في الفترة الممتدة من 1952 إلى 1956 خلال فترة الاستعمار الفرنسي لتونس، واعتمد فيها على التسجيلات المحفوظة بالمعهد العالي لتاريخ تونس المعاصر، والذي يحتوي على الشهادات المرئية والمسموعة عن تاريخ الاستعمار والاستقلال بتونس.

في لبنان، بدأت ورشة المعارف بجمع قصص النساء بأصواتهن منذ عام 2010، وهي تعمل منذ إشهارها سنة 2016 على ثلاثة مشاريع؛ المكتبة النسوية والحكواتيات والمدرسة النسوية لتوثيق تجارب النساء في مختلف الحركات الاجتماعية، فيما أتاح أرشيف التاريخ الشفوي الفلسطيني، الذي أطلقه معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية بالتعاون مع مكتبات الجامعة الأميركية في بيروت ومركز المعلومات العربي للفنون الشعبية “الجنى” وموقع “أرشيف النكبة”، 1000 ساعة تسجيل عن النكبة وقصص نساء مخيم عين الحلوة والتراث الفلسطيني في عام 2019، وعمل أيضاً على موضوع مشروع تأريخ شفوي يتناول المفقودين خلال عامي 1975-1990، وبدأ عام 2011 بالعمل ضمن مشروع أوسع “حديث الأجيال: مشروع تأريخ شفوي عن العنف السياسي وأثره”، والذي يديره المركز العالمي للعدالة الانتقالية. وفي عام 2019 بدأت الباحثة الفلسطينية لواحظ السيد مع عشر فتيات من مخيم نهر البارد مشروعاً في ورشة المعارف وبالتعاون مع مبادرة سوا لتوثيق قصص اللاجئات الفلسطينيات في مخيم نهر البارد والتراث وطرق العيش في فلسطين. وفي الأردن، نشر برنامج التأريخ الاجتماعي والشفوي في مركز الأردن الجديد للدراسات ، الذي أطلق سنة 1996، عدة مؤلفات لتوثيق تاريخ الأردن الاجتماعي، واستكمل عام 2005 جمع كل ما كتب عن الحركة النسوية في الأردن، ونظم ندوة بعنوان “التاريخ الشفوي ودراسات المرأة”، ركزت على الدراسات التي تناولت الحركة النسوية في الأردن، وبدأ عام 2006 مشروع “توظيف أدوات وتقنيات التأريخ الشفوي لتوثيق ودراسة الحركات النسائية وخاصة الأردنية”.

أما بالنسبة للسودان، فيحتوي أرشيف معهد الدراسات الأفريقية والآسيوية في جامعة الخرطوم العديد من وثائق التأريخ الشفوي التي توثق تراث وتاريخ السودان، بينما تحوي شعبة الرواية الشفوية في المركز الوطني للمحفوظات والدراسات التاريخية في ليبيا وثائق تسجل النضال ضد الاستعمار الإيطالي. تشير هذه اللمحة المختصرة عن أهم المشاريع والدراسات السابقة في مجال التأريخ الشفوي إلى افتقار معظم البلدان العربية إلى مؤسسات وبالتالي أبحاث تختص في مجال التأريخ الشفوي على الرغم من اعتماد العديد من المراجع العلمية والأدبية في مختلف المجالات على المصادر الشفوية، كما نلاحظ أنّ كتاب “باليمين والشمال – النساء العربيات يتحدّثن عن أنفسهن” هو من أوائل الأبحاث في مجال الدراسات النسوية التي اعتمدت منهج التأريخ الشفوي في العالم العربي، وفي سوريا تحديداً؛ حيث بدأت مؤسسة وثيقة وطن سنة 2016 مشاريع تأريخ شفوي توثق جوانب مختلفة من التاريخ السوري، ومن مشاريعها: مشروع “النساء في زمن الحرب” الذي يهدف إلى جمع شهادات شفوية توثق تجربة النساء السوريات خلال الحرب، ولذا يعدّ من الضروري تسليط الضوء على دراسة يمكن أن تعدّ رافداً ومرجعاً لمشاريع مماثلة ليس في سوريا فقط، بل في العالم العربي أجمع في ظل تعرّض إنجازات النساء للتهميش في جميع المجالات عموماً وفي الكتابة على وجه الخصوص (شعبان، 1999: 23). كتاب “باليمين والشمال – النساء العربيات يتحدّثن عن أنفسهن” أنموذجاً في التأريخ الشفوي:لتوضيح الخصائص التي تميّز التأريخ الشفوي عن غيره من العلوم، وُظّفت مقالة “ميزات التأريخ الشفوي” (2006) للمؤرخ الشفوي أليساندرو بورتيلي، التي تشرح هذه الخصائص، واستخدمت أمثلة من كتاب “كلتا اليدين اليمين والشمال – نساء عربيات تتحدّثن عن حياتهنّ” لشرحها، وفيه نلاحظ العديد من خصائص التأريخ الشفوي التي ركز عليها بورتيلي في مقالته: يحول التأريخ الشفوي الذكريات إلى نظريات:حسب منظمة التأريخ الشفوي الدولية، يشير التأريخ الشفوي إلى طريقة تسجيل وحفظ الشهادة الشفوية: “فعملية التأريخ الشفوي تبدأ بالتسجيل الصوتي أو المرئي لشهادات اختبر الراوي ذاته أحداثها من قبل محاور يشارك الراوي المقصد ذاته، وهو إنتاج تسجيل يدوم ويسهم في خلق فهم للماضي، ويكون التسجيل الصوتي، وبالتالي التأريخ الشفوي، نتاج هذه العملية ويحفظ ويتاح في أشكال مختلفة للمهتمين والباحثين وعامة الناس للاستفادة منه”، وهو ما قامت به الباحثة شعبان حيث أجرت مقابلات شفوية مع مجموعة من النساء من عدة دول عربية؛ تضمنت سوريا ولبنان وفلسطين والجزائر، متيحة لهنّ إمكانية التعبير عن أنفسهنّ، بدلاً من أن تتكلم نيابةً عنهنّ، محولة ما لديهنّ من معلومات عن حياتهنّ إلى نظريات عن الوضع النسوي في الحقبة التي عايشنها. هذا و”تختلف مقابلات التأريخ الشفوي عن غيرها في المحتوى والعمق، فهي تهدف إلى الحصول على تقرير معمق عن التجربة الشخصية للرواة وتأملاتهم، وتعطيهم الوقت الكافي لرواية قصصهم بالطريقة التي يبتغوها، وتركز المقابلات في محتواها على العودة إلى الماضي وليس على التعليق على أحداث جارية”؛ إذ توثق المقابلات الحياة الثقافية واليومية التي عاشها الرواة، على أنّ النتائج لا تبنى على تجميع معلومات من عدة مقابلات، ولا تهدف إلى تعميم خلاصاتها لتشمل شرائح أكبر أو اختبار فرضيات، ذلك أن لكل رواية شفوية عالمها الخاص، الذي لا يمكن تكراره، ولا يمكن تغطية ودراسة جميع المصادر الشفوية، بل على العكس فالقصد من المقابلات هو الحث على التأمل والتفكر فيما حدث في الماضي دون فرض وجهات نظر معينة، وهو ما اعتمدته الباحثة شعبان في كتابها؛ فكانت تدير الحوار من خلال طرح أسئلة مفتوحة، ولكن دون أن تترك الحوار بلا إطار عام توجّه فيه الراوي إلى موضوع البحث، ومثال ذلك عندما سألت الباحثة إحدى الراويات اللبنانيات سؤالاً مفاده “كيف تطور وتغير دورك كونك امرأة عاملة خلال الحرب؟” (Shaaban, 1991: 102) مما أتاح للراوية عرض مراحل تطور عملها، وإبداء وجهة نظرها في الموضوع، غير أنّ استخدام عبارة “كونك امرأة عاملة” أطّر موضوع السؤال، وربطه بموضوع معين، وهو عمل النساء في زمن الحرب. “استخدمت الباحثة شعبان هذه الروايات الشخصية لمناهضة الصور النمطية عن النساء العربيات بوصفهن خاضعات ومطيعات”(Gluck, 1990: 119)، فخلصت الباحثة من ذكريات النساء اللواتي قابلتهنّ إلى نظريات مفادها أنّ ما يجمع بين هؤلاء النساء على اختلاف شرائحنّ وطبقاتهنّ هو وعيهن لأنفسهن وقدراتهن، وأنّهنّ تعرضن لكبتٍ مجتمعي هائلٍ، وهو كبت موجود لدى النساء دون الحاجة لأن يمارسه عليهن أحدٌ نتيجة أسباب عديدة تمنع النساء أحياناً من تأدية دورهن بطريقة فعالة ،مثل التربية المجتمعية وما يتوقعه المجتمع منهنّ. شفوية المصادر الشفوية: على الرغم من أنّ أساس التأريخ الشفوي هو شفوية المصدر التاريخي؛ مقابلات شفوية، يركز العمل البحثي في التأريخ الشفوي على النص المفرغ للمقابلة، والذي يتضمن بطبيعة الحال بعض التغييرات والإضافات لنقل المعنى ذاته الذي وصل للمحاور، ولطالما ربطت الشفوية والكتابة علاقات وطيدة، وخاصةً أن العديد من الرواة وثقوا تجاربهم شفوياً قبل كتابتها، غير أنّ شكل وثيقة التأريخ الشفوي؛ أي النغمة وحجم الصوت والفواصل والصمت واللهجة والجمل غير المكتملة، يحتوي على معانٍ عديدة (بورتيلي، 2005)، ولذا تكون عملية التفريغ حيادية تظهر ذات الراوي، وليس المفرغ، إلا فيما يتعلق بالجانب المهني والفني المتعلق بتحسين لغة المقابلة أو الكتابة أو الإخراج أو استكمال الجمل لتوضيح المعنى بحيث تعبر اللغة عن صاحبها، وتعكس مستواه التعليمي والثقافي، وليس مستوى المفرغ، وعليه يحافظ النص المفرغ على الأمثال الشعبية أو الكلمات العامية التي من الممكن أن تعطي للقصة قيمتها، كما هي الحال في هذا الكتاب حيث سجلت الباحثة المقابلات، وثمّ حولتها إلى نص كتابي، لكن اللغة التي فرغت بها المقابلات كانت واضحة وبسيطة وتعكس البيئة الثقافية والعلمية للراويات للمحافظة على روح المقابلات ونقل الحيوية والنبض اللذين وجدا في التسجيل إلى الورق قدر الإمكان كما أشارت الكاتبة في مقدمة كتابها، وكما هو واضح في المثال التالي؛ فعندما سألت امرأة جزائرية شاركت في النضال ضد الاستعمار الفرنسي السؤال التالي: “هل عامل الفرنسيون النساء بوحشية أقل من الرجال في السجون؟” فأجابتها السيدة: “لا، عاملونا جميعاً كيف كيف [بالطريقة ذاتها]”(Shaaban: 1991: 185)، وبذلك أبرزت الباحثة شعبان الثقافة والبيئة الطبيعية للراوية، وعلى الرغم من أنّ غلك أشارت إلى أنّ الباحثة وظّفت قصص النساء لتعظم معاناتهنّ في ظل نظام اجتماعي أبوي(Gluck, 1990: 122)، وهو ما أدى إلى المبالغة في تبسيط روايات النساء، وتقديم قصص صادمة في بعض الأحيان، معتبرة أنها اتخذت موقف المستشرقين، إلا أنّ تفريغ المقابلات كما وردت، وبطريقة أقرب للتسجيل مع المحافظة على العبارات التي تعكس ثقافة الراويات، مكّن القارئ من الوصول إلى ذات النساء الغنية والعميقة وتجاوز السطحي منها.

ولا يمكن فصل الشفوية عن الكتابة؛ فقد يكون الرواة ممّن لا يعرفون القراءة والكتابة، أو ممّن يتمتعون بمستوى عال من الثقافة ويتكتبون عادةً؛ إذ تختلف المصادر الشفوية فقد يؤرخ التأريخ الشفوي لمستويات عديدة من الناس، الذين من الممكن أن يكونوا من الأميين أو المهمشين أو من النخبة، ذلك أنه “ليس بالضرورة أن يحمل الشخص رواية هامة؛ فعلى الرغم من أن الشخص قد يتمتع بمكانة اجتماعية عالية، قد لا تؤدي روايته الغرض المطلوب، والعكس صحيح؛ فقد تعكس رواية إنسانة بسيطة معنى وغرض البحث، وتكون ذات أهمية علمية كبيرة تخدم غرض البحث” (شعبان، a2018)، وهذا ما حدث في هذا الكتاب فقد اختارت الباحثة نماذج نساء تمثل مختلف شرائح المجتمع؛ فكانت إحداهنّ امرأة كاتبة (مقبولة الشلق)، وأخرى ناضلت ضد الاستعمار الفرنسي (ثريا الحافظ)، وأخرى روائية (ألفة الأدلبي)، ومن كانت عضو مكتب تنفيذي في الاتحاد الوطني لطلبة سوريا وعضو مجلس شعب (وفاء صنين)، وامرأة متقدمة في العمر، أم محمود، التي كان عمرها ستين عاماً وكانت أمية؛ ففي الوقت الذي ترعرعت فيه لم يكن هناك مدارس في القرى، ولم يسمح للفتيات أن يتعلمن مع الصبية عند الشيخ، وقابلت الباحثة كذلك نساء مجاهدات وعاديات من قبيلة الطوارق جنوبي الجزائر، وقابلت نماذج من النساء الفلسطينيات، وتحدثت مع سيدات صغيرات ومعلمات ومناضلات، والتي استدلت عليهنّ عن طريق البحث أو عبر علاقات اجتماعية، أو من خلال القراءة، واختارت من الشرائح ممن لديها قضية وصاحبة فكر (شعبان، a2018)، وقد التقت النساء في أوطانهنّ باستثناء النساء الفلسطينيات اللاتي التقت بهنّ في سوريا ولبنان، وقابلت النساء في بيروت الغربية فقط، ففي أواخر 1984 كانت بيروت الغربية مفصولة عن بيروت الشرقية، وقد ساعد هذا العدد الكبير من المقابلات والتنوع في أنماط الرواة على جعل الكتاب ممثلاً عن نساء المجتمع في تلك الحقبة (Golley, 2003: 96). الخطاب السردي للرواية الشفوية إنّ أهم ما يميز التأريخ الشفوي أيضاً أنه خطاب سردي؛ يتبع من خلاله كل من الراوي والمحاور أسلوب السرد، وهو ما يفتقر له التاريخ المكتوب، إذ يأخذ فيه الرواة دور المؤرخين، ويصبح المؤرخ جزءاً من المصدر، ويمكن أن نلاحظ الأسلوب السردي في الروايات التي يحتويها هذا الكتاب، وحسب جولي (Golley, 2003: 96)تستخدم الباحثة أسلوباً سردياً تحاور فيه الرواة، بدلاً من استخدام أسلوب يعتمد السؤال والجواب، تماماً كما يفعل الروائيون، ويرافق روايات النساء سيرة ذاتية لحياة الباحثة، بحيث تمثل هي دور البطلة الرئيسية التي تجول في الدول محاولة فهم نساء أخريات يمثلن شخصيات أخرى في الرواية، وتتكلم عن زمان ومكان المقابلة، وتصف الشخصيات والأحاديث العابرة، وكمثال على ذلك، تنقل لنا الباحثة حديثاً يرتبط بموضوع الكتاب كان قد دار بين سيدتين أثناء انتظارها الحافلة عقب إجراء مقابلة مع امرأة سورية: (Shaaban, 1991: 39)”قالت الأولى لصديقتها بنبرة تحمل شيئاً من التوبيخ: مرّ وقت طويل منذ أن رأيناك آخر مرة. فأجابت السيدة الثانية: ماذا بوسعي أن أفعل؟ لا أميز بين شروق الشمس وغروبها، لدي ستة أطفال لا يساعدني أحد منهم باستثناء ابنتي الكبرى وهي منهكة مثلي. فردت الأولى بقلق: ألم تجدي ابن حلالٍ لها بعد؟ لم تعد صغيرة فقد أصبح عمرها خمساً وعشرين سنة، أليس كذلك؟” ومن خلال السرد الذي يتيحه اعتماد منهج التأريخ الشفوي، قد يصف الرواة تجربة طويلة في بضع كلمات، أو يسهبون في وصف أحداث قصيرة أثّرت بهم في حياتهم، مثل روايات النساء الفلسطينيات في الكتب الذي سادت فيه قصص ما تعرّضوا له من قبل قوات الاحتلال، فعلى اختلاف طبقاتهم الاجتماعية، إلا أنّ النساء الفلسطينيات اللاتي قابلتهنّ الباحثة، تأصّل سردهنّ في الثقافة والسياسة الفلسطينية (Gluck, 1990: 118)، ولم يستطعن الفصل بين هويتهم كنساء وهويتهم كمواطنات فلسطينيات، كما هي الحال في رواية امرأة فلسطينية كانت تعيش في مخيم اليرموك، و تكلمت عن أبنائها الشهداء، وقالت عن أحدهم: “وبعد أن نزل الدرج، التفت إليّ وقال: أمي، وداعاً، تصبحين على خير، لن أعود، وفعلاً لم يعد من حينها، وقد علمت بعدها أنه أصيب بطلقة أردته قتيلاً بعد عشر دقائق من مغادرته المنزل، أحضروه للمنزل، وجنّ جنوني، عانقت التابوت ونمت بجانبه تلك الليلة.” (Shaaban, 1991: 147)وتظهر وجهات نظر جمعية في سرد الفرد من خلال استخدامه للأمثال الشعبية والأغاني والصيغ والصور النمطية، في حين يشير استخدام العامية في الخطاب الرسمي أو كلمات فصحى في الخطاب الذي تغلب عليه اللغة العامية إلى مدى سيطرة الفرد على السرد، وتحمل معانٍ عديدة للجمهور، فعندما كانت امرأة سورية تتكلم عن زوجة زوجها الأولى، كانت تستخدم كلمة “رفيقتي” في إشارة منها إلى أنهما كانتا متقاربتين نتيجة لتقاسمهما معاناة الفقر وبخل زوجهما: (Shaaban, 1991: 63)”كان على رفيقتي وأنا أن نربي الدجاج ونبيع البيض والجبن والعنب وغيرها لنشتري لوازمنا”معنى الحدث:التأريخ الشفوي ليس كمياً بقدر ما هو نوعي (شعبان، 2018b)، فهو لا يسجل الأحداث بقدر ما يخبرنا عمّا تعنيه للرواة، وهو ما يجسّده هذا الكتاب، فهو لا يقدّم دراسات إحصائية أو يسرد أرقاماً عن أحداث تعرضت لها النساء خلال الفترة التي عشن فيها، بل جاء الكتاب عرضاً لقصص نساء من شتى أصقاع العالم العربي، وهذا لا يعني أنّ التأريخ الشفوي لا يضفي مصداقية للوقائع، بل تتيح المقابلات في معظم الأحيان التعرف على وقائع غير معروفة أو تسليط الضوء على جوانب غير مألوفة من الحياة اليومية للطبقات المهمّشة والنخبة على حد سواء، وعليه فقد لا يضيف المصدر الشفوي الكثير لما نعرفه عن الحادثة، ولكنه يوضح لنا تأثيراتها، ويظهر ذاتية الراوي، والتي هي العنصر الفريد من نوعه الذي يميز التأريخ الشفوي؛ فطريقة ترتيب الراوي لأحداث القصة يعكس علاقته بتاريخه، ويعدّ الجانب الذاتي سمةً أساسيةً يجب إدراجها في كتابة التاريخ ولا تقل أهميته عن أهمية الحقائق؛ أي أنّ ما اعتقد الرواة أنه بالفعل حقيقة تاريخية هو هام بقدر ما حدث فعلاً، وهو ما بدا وضحاً في الطريقة التي سردت بها الراوايات تفاصيل وقائع معينة في الكتاب، وعلّقن على هذه الوقائع، مثل رواية ثريا الحافظ، التي قادت أول مظاهرة نسائية ضد الاستعمار الفرنسي عام 1928، فبعد سرد تفاصيل هذه المظاهرة وتفاصيل نضالها السياسي وتنظيمها لمنتدى سكينة الأدبي للنساء، تابعت حديثها قائلةً: (Shaaban, 1991: 49) “كان لدي هدف في الحياة، وتمسكت به، وحاربت من أجله، وبالتأكيد تمكنت من تحقيقه، كان هدفي أن أرى النساء في بلدي مواطنات حرات ومتساويات في الحقوق، وهاهم الآن يتمتعون بالحرية والمساواة”، فنلاحظ في هذا المثال المقتضب ذاتية الراوية في كلمات مثل: لدي وتمسكت وحاربت وتمكنت وهدفي، وهي ترى أنّ النساء يتمتعن بحقوقهنّ وهو ما يمثل “الحقيقة” بالنسبة لها.مصداقية المصادر الشفوية: وعلى الرغم من أنّ مصادر التأريخ الشفوي تطرح مشكلة عند محاولة التحقق من مصداقية الوقائع المذكورة في الروايات، إلا أنّ ما يساعد على حل هذه المشكلة هي مقاطعة الروايات مع بعضها للتحقق من مصداقيتها، والاعتماد عليها كوسيلة للاستقصاء عما عنته الأحداث المثبتة واقعياً على طبقات المجتمع. وتختلف طرق التحقق من مصداقية المصادر الشفوية عن غيرها؛ إذ يضفي الانخراط الشخصي للرواة في روايتهم مصداقية للرواية، ذلك أنّ الذاكرة ليست مستودعاً سلبياً للأحداث، بل تقوم عند تخزين هذه الاحداث بعملية خلق للمعنى وإضفاء معاني تنبع من ذاتية الراوي، لذا فإن فائدة المصادر الشفوية للمؤرخ لا تكمن فقط في قدرة الرواة على استذكار الماضي، بل في التغييرات التي طرأت على الذاكرة وفي محاولاتهم فهم الماضي، وقد تكون التغييرات التي طرأت على وعي الرواة الشخصي الذاتي ومحيطهم الاقتصادي والاجتماعي هي ما يؤثر على ما يروونه من أحداث وعلى صياغة القصة، وقد تتوقف حياتهم عند لحظات مصيرية تدور حولها قصتهم، فلذلك يكون من المهم ربط الماضي بالحاضر والمستقبل في رواية الراوي. ويعوض الانخراط الذاتي للرواة في هذه الأحداث عن بعد الرواية زمنياً عن الحدث، ويؤكد في العادة رواية الراوي روايات أخرى من المجتمع نفسه، وهذا ما كان واضحاً في الكتاب حيث قابلت الباحثة نساء من نفس البلد ونفس العائلة مثل الراويات السوريات: أم محمود وابنتها أمل وابنة زوجها ليلى، وحاولت المقارنة والربط بين قصصهنّ فكان من ضمن أسئلتها للابنة أمل: “الآن وقد سمعتِ ما روته والدتك عن حياتها، كيف تقارنين حياتك بحياتها؟” (Shaaban, 1991: 66). على أنّ الشهادة الشفوية لا تتكرر، ما يجعلها فريدة من نوعها، فلا يمكن أن تتشابه الشهادات الشفوية حتى ولو كانت عن الحدث نفسه، وهو ما يمكن ملاحظته في جواب أمل على السؤال السابق للباحثة: “شخصياً، أنا لم أختبر ما أخبرتك به والدتي للتو، فقد كنت صغيرة جداً، والأمر الوحيد الذي كنت أعرفه أنّ العلاقة بين والديّ لم تكن جيدة، ولكنّ صدمتي الأولى في الحياة كانت، مثل والدتي، هي إجباري على قبول زواج مدبر عندما كان عمري اثنتي عشرة سنة فقط”.

وعليه نجد أنّ الراوية، أمل، حاولت إيجاد نقاط مشتركة بين قصتها وقصة والدتها، مؤكدة بعض التفاصيل في روايتها ورواية والدتها، غير أنّ إضافاتها أكسب روايتها فرادة جعلها تختلف عن غيرها، وربما ما اعتبر شرعياً وعادياً في الماضي هو الآن غير مقبول، ولذا فالمعلومات القيمة قد تقبع فيما يخفيه الراوي، وفي حقيقة أنه يخفيه، ويحكم على ما يستطيع قوله من خلال الحاضر، ولذا وجب التمييز بين الحاضر والماضي، فعلى الرغم من أن الباحثة شعبان انتظرت غياب الرجال عن المنزل لتتمكن من لقاء أم محمود ونساء عائلتها ليتمكنّ من سرد رواياتهنّ براحة، إلا أنهّ حتى عندما سردت أم محمود روايات عن الزنا وقتل النساء والثأر نتيجة لذلك، فقد روتها كقصص شعبية (Shaaban, 1991: 61).الموضوعية: تفتقر المصادر الشفوية إلى الموضوعية نتيجة لتدخل الراوي الذي يغير طريقة السرد، وأيضاً لبروز ذاتية المحاور؛ فشرط الحصول على مصدر شفوي هو وجود باحث يتدخل في محتوى المصادر الشفوية عن طريق ما يطرحه من أسئلة وما يبنيه من حوار وعلاقة شخصية مع الراوي (النفره: 2019)، وفي حال غياب المؤرخ، يظهر كتاب التاريخ وكأنه مخطوط حيادي وموضوعي، في حين يتميز التأريخ الشفوي في أنّ الراوي هو جزء من التاريخ، وهذا هو الفرق بين دور المؤرخ في التاريخ المكتوب والتاريخ الشفوي، فالاختلاف يكمن في مقاربة التاريخ، وقد كانت ذاتية الراوي واضحةً في هذا الكتاب، تماماً كما كانت ذاتية المحاور عندما قدمت الباحثة رؤيتها للقصص التي سمعتها وعكستها على تجربتها الشخصية، إذ تتخلل ملاحظاتها الشخصية قصص الراويات التي تختلف في الطول وتربطها بتجربتها (Gluck, 1990: 118)، فمثلاً بدأت الباحثة التفكير في حياتها الخاصة نتيجة تأثرها بحوارها مع جارتها، سلمى، التي عاشت حياة تعيسة مع عائلتها وبرفقة زوجها الذي أساء معاملتها، ومما ذكرته: (Shaaban, 1991: 79).”وخلصتُ إلى أنّ الفرق بيني وبين سلمى أنّها كانت تحاول أن تعيش مع حقيقة أنها صُنّفت على أنها أقل ذكاء وجدارة، وبالتالي لا تساوي غيرها، فيما أحاول أنا أن أحارب وأهزم هذه التصنيفات حينما وحيثما صادفتها، وهي حرب تخوضها النساء في كل أصقاع العالم، فلا يزال عليهنّ جميعاً إثبات أنفسهنّ كل يوم وأحياناً كل ساعة”. فالتفكر بحياتها واستخدام قصتها الخاصة في الكتاب جعلها متساوية مع تلك النساء (Golley, 2003: 96)، فحضور المحاور والعلاقة التي يبنيها مع الراوي يؤثر على موضوعية المقابلة، وكان واضحاً أنّه كان هناك علاقة ودية بين الباحثة والنساء اللواتي قابلتهنّ، فقد حاولت كسب ثقة الراويات من خلال منحهنّ حرية استخدام أسمائهنّ أو استبدالها باسم مستعار، فلم يمانع بعضهنّ استخدام الاسم الحقيقي بينما رفض بعضهم الآخر، والتزمت الكاتبة بذلك فنجد في الكتاب أسماء كاملة مثل ثريا الحافظ ورندة برّي، بينما تظهر أسماء مثل أم محمود وأم محمد وسلمى، و قد عُرض الاسم المستعار عليهنّ، وسُئلوا ثانية عن مدى رغبتهن في عرض الاسم قبل نشر الكتاب، مما عزز الثقة بين الباحثة والشاهدات وتحولت العلاقة إلى صداقة نتيجة الصدق والصراحة في التعامل فيما بعد، وساعدها نشر الكتاب باللغة الانكليزية على حصولها على الكثير من المعلومات (شعبان، a2018).

ولتعزيز الثقة قامت الباحثة بالعديد من الجلسات التمهيدية لالتقاء الراويات، والحصول على موافقتهن على التسجيل، وعليه بدأت الراويات تعريفها على أخريات فمثلاً عرفتها الكاتبة مقبولة الشلق على ثريا الحافظ لمقابلتها، وعرفتها صديقتها أمل على والدتها وزوجة شقيقها، مما أتاح للباحثة فرصة التقصي عن عناصر جديدة تتخطى موضوع النساء وتلامس مواضيع تخص المجتمع ككل، فتشعبت القصص، وتناولت المجتمع والسياسة والاقتصاد.الأصوات المتعددة في التأريخ الشفويلا نجد في وثائق التأريخ الشفوي صوت الطبقات الحاكمة وغير الحاكمة من النخبة والمهمشين فقط، بل نلحظ صوت الراوي والمحاور، وتكون الوثيقة الشفوية نتاج السرد الذاتي لكل منهما والتفاعل فيما بينهما، ذلك أنّ “المقابلة هي تجربة مشتركة يستفيد منها طرفان، فالتجربة المُعاشة هي تجربة مهمة، وهي التي تطوّر الإنسان، والتأريخ الشفوي يساعد على تطوِّير الإنسان الذي يعمل عليه، لأننا نتعلم من تجارب الآخرين ومن معاناتهم ومما عايشوه، خاصة عندما تصل المقابلات إلى درجة من الشفافية والصدق، وتبدو وكأنها اعتراف أمام الإنسان، فتكون داعمة للاثنين. ويشترك المحاور في هذه القيمة المضافة عندما يبدي التعاطف والاهتمام في رواية الشاهد، ويذكر ما يشعر الشاهد بالارتياح، ويعبّر عن القيمة المضافة الذي يقدمها الآخر، وفي الوقت نفسه يكسب المحاور من التجربة، ويغتني من هذا الآخر.” وبالتالي نجد أنّ العلاقة بين الراوي والمحاور مفيدة جداً، فما يختار الرواة الحديث عنه وما يختاروا إخفاءه يعتمد كثيراً على علاقتهم بالمحاور والجمهور المخاطب (Golley, 2003: 88)، وفي هذا الكتاب، فتحت الراويات أبوابهنّ للباحثة، وعبروا عن مكنوناتهم الشخصية لأنّها تشترك معهم في اللغة والخطاب السياسي والآمال (Gluck, 1990: 118)، وقد قررت النساء أنفسهنّ المواضيع التي يتكلمن بها (Gluck, 1990: 118)، و تنوعت الموضوعات التي تناولتها المقابلات (رعاية الاطفال والعلاقات الأسرية والزواج المدبر والأمومة والعمل والعلاقات بين الجنسين على كافة الأصعدة)، ولكن تم اختيارها حسب الخلفية الثقافية لكل امرأة (Golley, 2003: 97) ، فقد جاء دور المحاور ليحدد الإطار العام للمقابلة، إذ أنّ دوره أساسي وغياب صوته يؤدي إلى تشويه المقابلة (Golley, 2003: 96) ، ونادراً ما يتفق موقف المحاور مع القصة أو المصدر، والمواجهة بين وجهتي نظر الراوي والمحاور أو محاولة توحيدها هو ما يجعل من التأريخ الشفوي أمراً مثيراً للاهتمام، وهو ما كان جليّاً في الكتاب. فعلى سبيل المثال، عندما انتقدت ثريا الحافظ زوج صديقتها لتحرّره، وذكرت أنه ما “اجتمع رجل وامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما”، عندها أجابت الباحثة: “هذا ما قد يقوله شيخ، وليس مقاتلة ومتحررة وثائرة مثلك” (Shaaban, 1991: 53)، فتولد عن ذلك حوار طويل، وتشعبت عنه موضوعات اجتماعية مهمة. وتتنوع مصادر التأريخ الشفوي، فالتأريخ الشفوي ليس مادة موحدة بل يروى من عدة وجهات نظر دون أن يتبنى المؤرخ الشفوي اتجاهاً معيناً، بل يجمع عدة رؤى تظهر ذاتية الرواة، وهذه الذاتية جزء لا يتجزأ من رواية القصة، فنجد مصادر أخرى انخرطت في الكتاب بصوتها، ويبقى المؤرخ هو من يمسك بزمام الأمور، وهو ما لاحظناه في هذا الكتاب حيث احتوى نماذج وأمثلة مختلفة لبناء الرواية الكاملة لحقيقة الأحداث، ومنحت المحادثات التي شملت عدة نساء معاً الفرصة لهنّ لمشاركة تجاربهن (Golley, 2003: 97)، تماماً كما كانت الحال في المقابلة التي أجرتها مع امرأة جزائرية، وتروي فيها قصة مشاركتها في الثورة الجزائرية ضد الفرنسيين، وتعلق على وضعها كامرأة بعد الثورة، وعندما قاطعت ابنتها الكبرى، فريدة، روايتها، سمحت لها الباحثة باستخدام صوتها بدلاً من التكلم نيابة عنها: (Shaaban, 1991: 187)”التفتت فريدة إلى والدتها وقالت: أشعر أنّ الرجال الجزائريين استخدموا النساء، استخدموهنّ تماماً كما استخدموا أسلحتهم، فلم تَحصلن على شيء من الثورة، قطعاً لا شيء.فأجابت والدتها: “لا، لا أتفق معك، فلو لم نحارب في تلك الثورة لما كنت أنت هنا الآن تدرسين ماجستيراً في اللغة الانكليزية.”

خاتمة:تأتي أهمية تسليط الضوء على كتاب “باليمين والشمال – النساء العربيات يتحدّثن عن أنفسهن” من حقيقة زيادة نسبة الإناث اليوم في سوريا، نتيجة حالات الوفاة والاستشهاد والهجرة لدى الذكور، وما يترتب على ذلك من ضرورة إيصال صوت النساء لدراسة احتياجاتهن، وتأهيلهنّ وفقاً لهذه الدراسات، وتدريبهنّ بما يتناسب مع قدراتهنّ، وبالتالي تمكين المرأة فعلياً في المجتمع السوري، ذلك أنّ أبحاث التأريخ الشفوي، كما رأينا في هذا النموذج، تتيح إعادة النظر بمسائل عديدة بطريقة تمكننا من مواكبة التغيير الاجتماعي، والاستفادة من طاقات النساء، ولذا فاعتماد منهج كمنهج التأريخ الشفوي يتيح إنتاج دراسات من شأنها تغيير الوعي المجتمعي من خلال المناهج التربوية والتعليمية، إذ إنّ توفير البيئة العلمية والمادية والاجتماعية المناسبة مسؤولية يتشارك فيها الجميع بما فيها القاعدة الشعبية والسياسات العامة التي تتولى التخطيط الاستراتيجي. فعلى الرغم من تطور وضع عمل المرأة بناء على قوانين المساواة التي تتيح للمرأة العمل، إلا أنها لا تزال هي من تتحمل أعباء المنزل الداخلية، وعليه قد توجه مثل هذه الدراسات النظر إلى مبدأ تكافؤ الفرص الذي يسمح بالحرية الشخصية للنساء، ويمنحهنّ حق اختيار العمل الذي يناسبهنّ، وبذلك نصل إلى مرحلة تمكنّا من احترام عمل وجهد كل من الرجل والمرأة على الصعيدين الشخصي والاجتماعي. ونحن نكتب هذا المقال نعلم أنّ معظم الراويات في كتاب “باليمين والشمال – النساء العربيات يتحدّثن عن أنفسهن” قد فارقن الحياة، وبالنسبة للكثيرات منهنّ فإنّ شهادتهنّ في هذا الكتاب هي الشهادة الوحيدة التي عبرت عن مساهمتهنّ في الحياة ورؤيتهنّ لوضع المرأة وتصورهنّ لأفضل السبل للارتقاء بهذا الوضع، وهكذا يمكن القول أنه لولا توثيق هذه الشهادات لاندثرت تجاربهنّ معهنّ دون أن تتمكن الأجيال الشابة من النساء من الاطلاع على نبض وتفاصيل حياة جداتهنّ أو التعلم منها والإضافة إليها، وهذا يؤشر إلى أهمية عامل الزمن في التأريخ الشفوي فتجارب الناس مؤقتة تماماً كما هم مؤقتون والشيء الوحيد الذي يجعلها دائمة وذات فائدة مستدامة هو محاولة استنباطها من أصحابها بأفضل الطرق التي تسبر أعماق هؤلاء الرواة وتكون مرآة صادقة لتجاربهنّ وطموحاتهنّ ورؤيتهنّ لمستقبل أفضل، ففي الوقت الذي يمتلك فيه المؤرخون التقليديون المعتمدون على البيانات والوثائق والقصص الرسمية كلّ الوقت ليسجلوا التاريخ، يجد المهتمون بالتأريخ الشفوي أنفسهم في سباق مع الزمن من أجل عدم التفريط بأي تجربة أونتاج أو حكمة قد تضيء درب مستقبل، فكم دفنت قصص رائعة مع قلوب أصحابها تحت الثرى دون أن يتمكن أحد من أن يحولها إلى ضوء دائم ومستمر لا ينطفئ أبداً مهما طال الزمن، ولا شكّ أنّ فهم الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي لأي حقبة لا يكتمل أبداً دون أن تشكّل قصص أصحابه من مختلف الشرائح والأعمار جزءاً أساسياً من مدونات تلك الحقبة. إنّ الحرص على تسجيل التأريخ الشفوي يذكرنا يومياً كم هي مؤقتة هذه الحياة ويدق ناقوس الخطر من فقدان كنز أو ثروة قبل أن نتمكن من الإمساك بها وتحويلها إلى إرث تغتني به الأجيال.

مؤسسة وثيقة وطن – الدكتورة نيرمين النفرة

المصادر

[1] Shaaban, Bouthaina. 1988. Both Right and Left Handed: Arab Women Talk about Their Lives. London: Women’s Press, reprinted 1991. London: Indiana University Press

[1] تشغل الدكتورة بثينة شعبان  حالياً منصب المستشارة السياسية والإعلامية في رئاسة الجمهورية العربية السورية وكانت قد تبوأت منصب وزيرة المغتربين السورية ومديرة إدارة الإعلام الخارجي في وزارة الخارجية السورية وأستاذة الشعر والأدب المقارن في قسم اللغة الإنكليزية جامعة دمشق وأستاذة الأدب العالمي في الدراسات العليا في القسم نفسه. ودرّست في الجزائر وصدرت لها العديد من المؤلفات والكتب باللغتين الإنكليزية والعربية.

[1] الخوري، موسى. 2018.  تاريخ التأريخ الشفويّ: تطور وتاريخ المفهوم. دمشق: مؤسسة وثيقة وطن.

[1] شعبان، بثينة. a2018. تجربة التوثيق الشفوي في كتاب “باليمين والشمال – النساء العربيات يتحدّثن عن أنفسهن”. محاضرة. دمشق: مؤسسة وثيقة وطن للتأريخ الشفوي. [1] فيلم “امرأة” من إخراج المخرج الأمريكي السوري الأصل زياد حمزة وصدر سنة 2008.

[1] أبو الريش، رفعة. 2015. دور الروايــة الشفويــة للمــرأة الفلسطينيــة في الحفــاظ على الهويــة الوطنيـــة. لمزيد من المعلومات: www.miftah.org/Arabic/Display.cfm?DocId=14986&CategoryId=2

[1] Golley, Nawar Al-Hassan. 2003. Reading Arab Women’s Autobiographies: Shahrazad Tells Her Story. Austin: University of Texas Press

[1] لمزيد من المعلومات: http://ohc.iugaza.edu.ps/

[1] لمزيد من المعلومات: http://site.wac.ps/ar/

[1] عبدالهادي، فيحاء. 2015. أدوار المرأة الفلسطينية منذ منتصف الستينيات حتى عام 1982. البيرة: مركز المرأة الفلسطينية للأبحاث والتوثيق

[1] لمزيد من المعلومات: http://www.alkhaleej.ae/supplements/page/9b53f9b3-b579-4a6f-8378-4c14abade32c

[1] قاسم، فاطمة.2011. النساء الفلسطينيات: تواريخ مروية وذاكرة فئوية. لندن: دار زيد بوكس

[1] لمزيد من المعلومات: http://tam.ps/ar/ [1] Atiya, Nayra. 1982. Khul-Khaal: Five Egyptian Women Tell Their Stories. New York: Syracuse University Press

[1] لمزيد من المعلومات: http://www.wmf.org.eg/

[1] Mernissi, Fatima. 1988. Doing daily battle: Interviews with Moroccan women. London: Women’s Press

 [1] لمزيد من المعلومات: https://www.hrw.org/legacy/arabic/reports/2005/morocco1105/5.htm

[1] نويگة، د. عبد السلام. 2014. البوداي بالمغرب: قبائل في مواجهة الاستعمار الفرنسي من خلال الرواية الشفوية “البرانس نمودجا 1912-1956. الرباط: دار أبي رقراق للطباعة والنشر

[1] ذويب، محمد. 2017. الفلاّقة واليوسفيّة من خلال المصادر الشفويّة. تونس: دار سوتيميديا للنشر والتوزيع.

[1] لمزيد من المعلومات: http://www.ishmn.rnu.tn/prent_ar.htm

[1] لمزيد من المعلومات: https://alwarsha.org/

[1] لمزيد من المعلومات: https://www.aub.edu.lb/ifi/Pages/poha.aspx

[1] لمزيد من المعلومات: https://www.actforthedisappeared.com/promote-right-know/promotional-material/publications/empty-chairs-waiting-families

[1] لمزيد من المعلومات: http://www.ujrc-jordan.net/

[1] لمزيد من المعلومات: https://iaas.uofk.edu/index.php?lang=en

[1] لمزيد من المعلومات: https://iaas.uofk.edu/index.php?lang=en

[1] لمزيد من المعلومات:

[1] لمزيد من المعلومات: https://wathiqat-wattan.org/

[1] شعبان، بثينة. 1999. 100 عام من الرواية النسائية العربية. بيروت: دار الآداب

[1] Portelli, Alessandro. 2006. What Makes Oral History Different. In: Perks, Robert and Alistair Thomson. The Oral History Reader. New York: Routledge.

[1] يعمل أليساندرو بورتيلي أستاذاً في قسم الأدب الأمريكي في جامعة روما وهو مؤرخ شفوي. طبعت هذه المقالة إثر موافقة دارالنشر الحكومية التابعة لجامعة نيويورك في ألبانيا على إعادة طباعة ذات المقالة، والتي كانت تحمل عنواناً مختلفاً “موت لويجي تراستولي وقصص أخرى: الشكل والمعنى في التأريخ الشفوي”، بعد أن نشرتها ذات الدار في عام 1991. وقد ظهرت النسخة الأولى من المقالة تحت عنوان “خصائص التأريخ الشفوي” باللغة الإيطالية في المجلد الثالث عشر من مجلة “بريمو ماجيو” في مدينة ميلانو الإيطالية عام 1979، وأعيد طباعتها باللغة الانكليزية في المجلد الثاني عشر من مجلة “وركشوب هيستري” عام 1981. 

[1] لمزيد من المعلومات https://wp.stolaf.edu/irb/oral-histories/ [1] لمزيد من المعلومات https://wp.stolaf.edu/irb/oral-histories/

[1] Gluck, Sherna. Berger. 1990. The Voices of Palestinian Women: Oral History, Testimony, and Biographical Narrative. Oral History Review, 18/2: 115-123. [1] Portelli, Alessandro. 2005. A Dialogical Relationship: An Approach to Oral History, ExpressionsAnnual, 14, 1-8

[1] شعبان، بثينة. b2018. ما قبل المقابلات الشفوية : الإعداد والبحث المقابلات: المبادئ الموجِّهة لقيادة المقابلة. دمشق: مؤسسة وثيقة وطن.

[1] النفرة، نيرمين. 2019. ديناميكية المقابلات: سيناريوهات من وثيقة وطن وفق مقاربة العلاقة الحوارية لمقابلات التأريخ الشفوي. دمشق: مؤسسة وثيقة وطن.

 

المزيد..