مهام التاريخ الشفويّ

تبدأ أولى مهام التاريخ الشفويّ بسدّ ثغرات المصادر التاريخيّة المكتوبة. وهو لذلك يفترض في هذه النقطة وجود وثائق مكتوبة، بيّنت أعمال سابقة وجود ثغرات مهمّة فيها. يقترح التاريخ الشفويّ ملء هذه الثغرات بالشهادات المحصّلة من أشخاص شاركوا في أحداث معينة أو عاصروها وشهدوها. هذه الوثائق تخضع بدورها للنقد النصيّ والتحليل الدقيق نفسه الذي تخضع له مضامين الوثائق المكتوبة.

ترتبط هذه المهمّة بأبعاد مقصودة في المباحث الاجتماعيّة والأنثروبولوجيّة وعلم النفس واللسانيّات وعلوم أخرى، وتؤكد على ضرورة التفاعل وفتح آفاق العلاقة بين التاريخ وهذه المباحث والعلوم. فهي جميعها تمسّ الروابط الاجتماعيّة وديناميّات الثقافة التي تمثّلها. إن تسجيل هذه الروايات أو الشهادات يعني نقلاً للتمثّلات والديناميّات الحيّة والمتطوّرة التي تعطيها الثقافة عن نفسها، خلال حقبة زمنيّة محدَّدة.

إضافة إلى المهمة التكميليّة الأولى، يأتي التاريخ الشفويّ منافساً وناقداً للتاريخ الرسميّ والأكّاديميّ، الذي ارتبط حصريّاً بالجوانب السياسيّة والعسكريّة أو الدينيّة ونخبها. هذا الارتباط الحصريّ، أبقى جزءاً كبيراً من الوقائع والأحداث الحياتيّة، في كل المجالات، في الظلّ، أو يشار إليها على نحو عرضيّ، لدرجة تُفقِدها قيمتها في التاريخ الاجتماعيّ، وتغيّب شرائح كاملة، غدت مجهولة تماماً في الوثائق المكتوبة، بفعل انتقائيّةٍ، بمزاعم بيروقراطية علميّة. مقابل هذا التغييب والتهميش والانتقائيّة، تتوضّح وتبرز مهمّة التاريخ الشفويّ في دمقرطة التاريخ وفعل التأريخ. إنه يدعو إلى تكوين تاريخ ديمقراطي، يكون فيه الناس، كل الناس، مدعوّين للاشتراك والمساهمة في كتابة التاريخ، عبر تسجيل شهاداتهم ورواياتهم.

فالتاريخ الشفويّ، في هذا الخصوص، ليس مجرّد أداة ومنهج فقط لإعادة بناء الماضي، لكنّه نظريّة تعبّر بعمق عن الالتزام السياسي بالتاريخ من القاع، وتؤكّد على أن الناس العاديّين والمهمَّشين والمسكوت عنهم، لديهم أيضاً تاريخ، وأن هذا التاريخ لا بدّ أن يكتب. كذلك يقع التاريخ الشفويّ على الخطوط الأماميّة لديمقراطيّة إطلاع الأجيال اللاحقة على شهادات وذاكرة الأجيال التي سبقتها، بمن فيهم النخب، في كل المجالات، السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة والإداريّة، عبر تسجيل تفصيليّ شفويّ للتاريخ الواقعيّ والعقليّ الذي يخطّ تطوّر مسار حياة هذه الشخصيّات.

تقوم المهمّة الثالثة للتاريخ الشفويّ بإتاحة الفرصة لإعادة تأويل الحدث التاريخيّ وتوسيع مضامينه، لأنه حينما يوثّق كيف عاش الناس أحداثاً من الماضي وكيف فكّروا فيها وفهموها، فهو يريد التأكيد على أنّ ما يعتقده الناس بخصوص حدث ما، هو بحدّ ذاته حدث تاريخيّ تُرجِم إلى سلوكات وأفعال ورودود أفعال. خلف هذا النوع من الأحداث، يقبع مسار تطوّر وقرار لا بدّ من أخذه بعين الاعتبار من أجل فهم أفضل للانقطاع والاستمرار اللذين يشكّلان لحمة التاريخ. هنا أيضاً يمثّل التاريخ الشفويّ من جديد مراجعة للبديهيّات الكلاسيكيّة في التاريخ، من خلال التأكيد على أنّ الوثائق المكتوبة ليست حياديّة وعلى أنّ غيابها في كثير من الحالات أو السكوت عنها ليس مصادفة، وعلى أن المكتوب ليس أكثر موضوعيّة من الشفويّ، لأنه في كثير من الحالات ليس المكتوب إلا الشفويّ المتضمّن إدراك الأحداث التي لدى المؤرِّخ.

يأتي التاريخ الشفويّ كذلك تعبيراً عن إرادة واعية في وقف هدر تجارب و حيوات إنسانية شاهدت أو عاصرت أو شاركت في أحداث مضت ولم تلقَ على الأغلب اهتماماً من أجيال لاحقة. هذه الإرادة تعبّر أيضاً عن مراجعة نقديّة تعويضيّة وعلاجيّة للتجاهل التعسّفي لقطاعات مهمّة في المجتمع، أُهمِلَت من المؤرّخين.

يسهم التاريخ الشفويّ في صياغة تاريخ الزمن الحاضر عبر رصده للوقائع والاحداث والمعلومات الحاليّة والراهنة والمرشّحة لأن تعكس ملامح العصر الحاليّ، سواء وجد عنها وثائق أو لم يوجد.

يعمل التأريخ الشفويّ من جهة أخرى على بناء أرشيف شفويّ. فليس التأريخ في النهاية هو تدوين حكاية أو سيرة أو حدث، ولا جمع شهادات شفويّة حول ذلك، بل هو في المنظور الأعمق، إتاحة الفرصة لبناء ذاكرة مسجّلة ومتاحة للبحث والتنقيب والتحليل أمام الأجيال القادمة، وهو بذلك يعزّز المنظور المعرفي المتطوّر مع الزمن، والرؤية للتاريخ خارج إطار التحديد والتأويل النهائيّين.

المزيد..