ديناميكية المقابلات: سيناريوهات من وثيقة وطن وفق مقاربة العلاقة الحوارية لمقابلات التأريخ الشفوي

ديناميكية المقابلات: سيناريوهات من وثيقة وطن وفق مقاربة العلاقة الحوارية لمقابلات التأريخ الشفوي
د.نيرمين النفره
عرف التأريخ الشفوي بالعديد من الطرق، ولكن جميعها تشير إلى نفس المفهوم ولو اختلفت طرق التعبير عنه، إذ يرتبط التأريخ الشفوي بالقصص الشخصية، وذاكرة من يروي للناس عن الماضي، والطرق التي تجمع وتحفظ بها هذه القصص من قبل مؤرخين وباحثين.(Veale, and Schilling, 2004, p1) ويشير تعريف التأريخ الشفوي بشكل عام إلى أنه تسجيل صوتي لمعلومات تاريخية من خلال إجراء مقابلة تحفظ تاريخ حياة شخص أو تقرير شاهد عيان عن أحداث جرت في الماضي. وخلافاً لأغلبية الوثائق التاريخية، لا “تُكتشف” المصادر الشفوية في الواقع بل “يشارك في خلقها” المؤرخ (Portelli, 2005). فلا يمكن للمصادر الشفوية أن توجد لولا حضور المؤرخ في المقابلة، ودوره الفعال في تحفيز ذاكرة الرواي، وبالتالي يكون التأريخ الشفوي نتاج تفاعل بين شخصين أحدهما يسأل والآخر يجيب على السؤال وأهم ما يميز هذا التفاعل هو أولاً الذاتية التي تسمح للمحاورين أن لا يسألوا عما حدث فقط بل عن شعور الرواة تجاه ما حدث، وثانياً الشراكة بين المحاور والراوي في خلق منتج التأريخ الشفوي الذي يسمح للرواة تفسير وتحليل تجاربهم الشخصية من خلال وجهات نظرهم وبكلماتهم (Veale and Schilling, 2004).
ولطالما اعتبرت الروايات الشفوية والشهادات التي تشكل التأريخ الشفوي مجرد أداة ثانوية من مجموعة الأدوات والمصادرالتي يعتمد عليها المؤرخ، فيما تشكل المصادر الشفوية محور عمل المؤرخ الشفوي، وتعد فيه الذاكرة والرواية والذاتية والحوار أهم عناصر العمل التاريخي (Portelli, 2005). فمصطلح التأريخ الشفوي مصطلح محدد يتطلب الاستخدام النقدي للمصادر الشفوية وفق مقاربات وإجراءات خاصة تتناسب وطبيعة هذه المصادر وصيغتها. وتخضع لنفس المحاكاة النقدية كغيرها من المصادر للتأكد من مدى دقتها وفائدتها. وعليه فإنّ مدى دقة ومصداقية مصادر التأريخ الشفوي هو موضوع نسبي كغيرها من مصادر البحث، فلا يجب اعتمادها بها بشكل كامل كأي نوع آخر من انواع البيانات، بل يجب التأكد منها من خلال تقديم دلائل أخرى ومقاطعتها مع مصادر أخرى (Ritchie, 2003).
ولتجنب ارتكاب أخطاء شائعة صاغ المؤرخون الشفويون جملة من المعايير لإجراء المقابلات ووضعوا مبادئ للتعامل أخلاقياً مع الرواة، ولكن طبيعة مجال التأريخ الشفوي المرنة والخلاقة لا تسمح أن يتم حصره في جملة معينة من القواعد فلكل قاعدة شواذ وأحيانا ً الشواذ هو ما ينجح المقابلة، وعليه يقوم المحاورون بتطوير ومشاركة طرق جديدة للحوار (Ritchie, 2003). تهدف هذه الورقة إلى تسليط الضوء على بعض السيناريوهات التي قد يواجهها محاور يعتمد مقاربة التأريخ الشفوي وتقديم تعليل علمي لمقاربتها. ولا تهدف إلى تقديم طرق جذرية ونهائية للتعامل مع مثل هذه السيناريوهات بل تحاول التأكيد على مرونة منهجية التأريخ الشفوي، وتعقيد التجربة البشرية التي توثقها ومدى عالمية وجدلية هذه السيناريوهات. سنشير بدايةً إلى مرونة منهج التأريخ الشفوي ومن ثم إلى مجموعة العلاقات الحوارية التي يقوم عليها هذا المنهج وفق مقاربة بورتيلي (2005) للتأريخ الشفوي.
مرونة منهج التأريخ الشفوي

يعدّ التأريخ الشفوي كما سبق ذكره وليد تبادل حواري يسمى “المقابلة” التي لا تتخذ فيها الأسئلة والاجوبة مساراً محدداً واحداً، بل تتقاطع عبرها أجندة المؤرخ مع أجندة الراوي. وفي الحالات التي قد لا يلتقي ما يرغب المؤرخ في معرفته بالضرورة مع ما يتمنى الراوي إخبار المحاور به، يتوجب على المؤرخ إعادة النظر في أجندته جذرياً (idib). وكمثال على ذلك، عندما بدأت مؤسسة وثيقة وطن مشروعها عن تاريخ الحرب على سوريا كان الهدف تغطية الأحداث التي بدأت عام 2011 ولا زالت، ولكن نتيجة إصرار العديد من الشهود على ربط الأحداث بتاريخ أطول أمداً يشير إلى أحداث جرت قبل عام 2011 مهدت الطريق لما أصاب مناطقهم، تم أخذ هذه الأحداث بعين الاعتبار بغية تقديم فهم أفضل لمجرى الأحداث حسب رؤية الشهود.

يعد التأريخ الشفوي فن استماع بالدرجة الأولى، وحتى حين يسير الحوار وفق الأجندة الأولية قد يغفل المؤرخون بعض الأسئلة التي يجب ان تسأل خلال المقابلة. فغالباً ما تقبع معلومات هامة خارج نطاق ما يعتقد كل من المؤرخ والراوي أنه مرتبط تاريخياً بمشروع البحث. ولذا فإجراء المقابلات يتطلب قدراً عالياً من التركيز والدقة لمعرفة كافة التفاصيل وكأن المحاور يخضع لامتحان (شعبان، 2018). على سبيل المثال، عندما بدأنا البحث في مجموعة الأحداث التي تناولت إحدى قرى شمال سوريا في إطار مشروع الحرب على سوريا، والتي كانت محط عدد لا متناه من القذائف وحصار دام سنوات، وفي إحدى المقابلات وفقط عند الاعتقاد أن المقابلة اتخذت منحى الجواب والسؤال المغلق بين المحاور وامرأة عايشت الحرب في قريتها أدت ذاكرة جميلة استثارها سؤال بسيط عن أكثر ما استمتعت القيام به في قريتها، وهو “البازار”، إلى استحضار واحدة من أكثر الذواكر التي تم تسجيلها إيلاماً عن معاناة المرأة زمن الحرب من رعب وخوف وتجويع وقهر وفقدان. فالبازار حسب ما ذكرت الشاهدة كان سوقاً شعبياً يشارك فيه تجار قريتها والقرى المجاورة من مختلف الطوائف لبيع منتجاتهم المحلية ويخلق جوّاً من البهجة والفرح، ويتحول إلى مهرجانٍ بدأ يتلاشى تدريجياً ليستبدل السلاح المنتجات وتسكت أصوات القذائف ضحكات الأطفال ،وتعلو الصواريخ فوق صرخات الأمهات، وتمزق الفتن ألفة القرى، ويتحول المهرجان إلى فيلم رعب جعل من البازار جزءاً لا يتجزأ من البحث في حين أن الحدث الرئيس موضوع البحث كان الحصار والمجازر التي طالت قرى شمال سوريا. وفيما يغفل التعريف السائد للتاريخ الشأن التاريخي لحياة شهوده نجد أن التأريخ الشفوي لا يتمركز حول الحدث فقط، بل يتناول المكان ومعنى الحدث في حياة الرواة للوصول إلى فهم أفضل لمجريات الأحداث.

التأريخ الشفوي: شبكة علاقات حوارية
إذن، وحسب مقاربة بورتيلي للتأريخ الشفوي (2005:5)، فكل ما في التاريخ الشفوي يشير إلى أنه فن استماع قائم على مجموعة من العلاقات:
العلاقة الأولى هي العلاقة بين المحاور والراوي (حوار)
العلاقة الثانية هي بين الوقت الذي جرى فيه الحوار والفترة التاريخية التي تتم مناقشتها في المقابلة (ذاكرة)
العلاقة الثالثة هي بين الصعيدين العام والخاص، بين سيرة الذاتية والتاريخ- أو بين ما يمكن أن نسميه: التاريخ والقصة
العلاقة الرابعة والأخيرة هي بين شفهية المصدر وكتابة المؤرخ

الحوار: العلاقة بين المحاور والراوي

لبدء حوار بين المحاور والراوي لا بدّ من وجود أرضية مشتركة تجعله ممكناً. فمثلاُ وعند لقاء أشخاص من قرى وبلدات عانت حصاراً ومجازر وآلاماً لا يمكن حصرها، يقدّم العديد من الشهود أجوبة عامة متجنبين ربط الموضوع بحياتهم الشخصية اعتقاداً منهم أن المحاور قد لا يكون مهتماً بالمعاناة الشخصية بل بأفكار عامة وليس تجارب خاصة، أو خوفاً من كشف الشخصي أمام التاريخ ولكن ما يميز فريق باحثي مؤسسة وثيقة وطن هو أنهم من مناطق مختلفة من البلاد عانوا من الحرب ما عانى منه الجميع على اختلاف أنواع المعاناة، وهذا ما ساعد في خلق مجال للحوار، ولكن، كما أشار بورتيلي، فمن الخطأ الافتراض أن التشابه وحده هو ما يمهد للمحاوَرين أن يعبروا عما في أنفسهم، وأن التشابه وحده يساعد في بناء جسر الثقة التي هي أساس أي حوار. فليست الأرضية المشتركة وحدها هي ما تجعل الحوار ممكناً، بل أيضاً يمنح الاختلاف المقابلة معنى. فمن ناحية المبدأ، يصبح لتبادل المعرفة معنى فقط إن لم يتشارك الطرفان هذه المعرفة مسبقاً – أي كان بين المتحاورين اختلاف ذو معنى وأحدهم في موقع يتعلم فيه من الآخر. فعندما يكون المحاور والراوي من ذات المنطقة قد تعرقل الحوار أسئلة من قبيل “لم تسألني عن ذلك؟” أو ملاحظات مثل “الكل يعرف ذلك”. ومما فتح مجالاً للحوار في أحد الأمثلة كان أن ذكر الباحث أنه لم يكن متواجداً في المنطقة فترة وقوع الأحداث وهو حريص أن يعرف تفاصيل الحدث كما جرى، وهو ما وضعه موضع المتعلم، ومنح الراوي موضع سلطة. فالراوي هو من يعرف ومن تتوفر لديه المعلومات وليس المحاور- وقد تناول موضوع ديناميكيات السلطة في المقابلة وتجاذباتها بين المحاور والراوي بحث مكثّف- [i] وعليه ما يفتح مجالاً للحوار هو أن يدرك الراوي أن الباحث لا يدرسه بل يتعلم منه، وفي الغالب يتم التأسيس لاحتمال حدوث حوار من خلال تقديم الباحث للمحاور من قبل أصدقاء مشتركين يوضحون غاية وهدف الباحث وتبدأ من خلالها عملية بناء جسر الثقة، وحتى في مثل هذه الحالات يكون المحاور موضع دراسة الراوي فهو يلاحظ ويحكم على المحاورمن خلال مواقفه ومن المواقف التي يتعرض لها محاورو وثيقة وطن وتعكس ثقافة المجتمع السوري وقيمه وفي الوقت نفسه تؤثر على إمكانية فتح مجال للسرد: إصرار معظم الشهود على استضافتهم ودعوتهم للطعام والشراب وهو ما يخلق جوّاً من الألفة، ويمنح المحاورين إحساساً بالمسؤولية والمشاركة الفعالة في عملية التوثيق.

لذا فالأرضية المشتركة تجعل المحادثة ممكنة، ولكن الاختلاف يجعلها ذات معنى ولا نعني بالأرضية المشتركة هنا هوية مشتركة بالضرورة، بل إرادة مشتركة للاستماع والحوار وقبول الآخر. وعليه فإن المقابلة تقوم أولاً وقبل كل شيء على مدى استعداد المؤرخ للاستماع والحوار واحترام الرواة بشكل يؤسس لقبول متبادل مبني على اختلاف يفتح مجالاً للسرد تستمر على أساسه المقابلة. وترتكز أيضاً على رغبة الراوي في سرد قصته وكشف خباياها لحد يمكّن المؤرخين من القيام بعملهم، والأهم من ذلك كله هو تقبل المؤرخين لأنفسهم وغاية عملهم.

التاريخ والقصة: العلاقة بين الصعيدين العام والخاص

تلعب المصادر الشفوية دوراً بارزاً في إعادة تقييم الحد الفاصل بين الحدث الذي يحمل بعداً تاريخياً، وبين ما هو ليس كذلك. ففي الواقع يقوم كلٌّ من الراوي والمحاور بتصنيف الأحداث وفقاً لأهميتها التاريخية قبل بدء الحوار دون أن يعلم المؤرخون أن هناك جوانب مهمشة في تجربة الرواي يتوجب عليهم استكشافها، ودون أن يعي الرواة البعد التاريخي لتجربتهم الشخصية. وفي بعض الأحيان يحجب الرواة جزءاً من تجربتهم نظراً لخصوصيتها التي لايسمح واقعهم بكشفها أو يمتنعون عن مناقشة أحداث هامة بالنسبة لهم خشية ألا يشاطرهم المؤرخ ذات الرأي. لذا فمن الطبيعي أن يبدأ الراوي في المقابلة بطرح أسئلة من نوع: “لا شيء عندي لأقوله” أو “ماذا تريدني أن أقول؟”، وحتى الأشخاص الذين لديهم الكثير ليقولوه وتتملكهم رغبة البوح به قد يصيبهم التوتر عند التفكير أنه قد لا يتم الاعتراف بأهمية روايتهم أو أن لا تعتبر “تاريخاً” عند مقارنته “بالتاريخ” الذي تعلموه. فأحد أسباب عدم ذكر قصة البازار من قبل العديد ممن حاورناهم هو اعتقادهم أنها مسألة شخصية لا تحمل أيّ بعد تاريخي يستحق حفظه في أرشيفنا، وهذا لا ينطبق فقط على قصة البازار فقط بل يتعداها ليشمل مئات القصص مما يعتقد من عايشوها أنها لا تحمل أيّ بعد تاريخي يستحق الذكر.

في الواقع إن تماهي الحدود وعدم وضوح العلاقة بين التاريخ والقصص هو ما يمنح التأريخ الشفوي معنى. فمن جهة يتمحور التأريخ الشفوي جوهرياً حول الدلالة التاريخية للتجربة الفردية، ومن جهة أخرى يعنى بالأثر الشخصي للقضايا التاريخية. وهذا هوالتأريخ الشفوي فالتاريخ حصيلة حيوات وتجارب شخصية. وفي إطار مشروع وثيقة وطن “الحرب على سوريا” لا يتداخل الفضاءان العام والخاص فقط عند النظر إلى تأثير الحرب على سوريا على حياة أفرادها وكيف أن الرجال والنساء والأطفال غادروا مجالهم الخاص (منازلهم) وانخرطوا في المجال العام (المشافي والمؤسسات والجمعيات والمنظمات والدولة والتكنولوجيا..إلخ)، بل أيضاً  في روايات الشهود ممّن يربطون على سبيل المثال بين تهديد أوباما بضرب سوريا وبين التصعيد المسلح في مناطقهم الذي أدى بهم إلى هجر منازلهم وأحلامهم والتخلي عن حياتهم والمضي إلى المجهول. وبإصرارهم على رواية تلك القصص، يجبر الرواة الباحثين على التوقف والاستماع والاعتراف بأهمية تلك الروايات. وبذلك لا يسمح لنا التأريخ الشفوي أن نصل إلى البعد التاريخي للحياة الشخصية فقط، بل والأهم من ذلك كله هو أنه يحتم علينا إعادة تعريف المفهوم الشائع للفضائين العام والخاص والعلاقات بينهما.

الذاكرة: العلاقة بين الوقت الذي جرى فيه الحوار والفترة التاريخية التي تتم مناقشتها في المقابلة

ينتقد المؤرخون التقليديون المحافظون منهجياً مدى مصداقية التأريخ الشفوي: فمن وجهة نظرهم لا يمكن الاعتماد على الروايات الشفوية لأن الذاكرة والذاتية بطبيعتها ميالة إلى التحريف. ولكن هذه ليست قاعدةً عامةً. وأيضاً كيف لنا أن نضمن خلو مصادر توثيقية أكثر رسمية من تحريف مماثل؟ لذا كما في حال جميع المصادر الأخرى، تكمن مهمة المؤرخ في تدقيق ومقاطعة معلومات المصادر الشفوية مع روايات ومصادر أخرى.

ثانياً والأهم أنّ العمل الممنهج والمتقدم نقدياً في التأريخ الشفوي قلب المفهوم التقليدي للتأريخ رأساً على عقب، فما يمنح المصادر الشفوية أهمية ويجعلها مثيرة للاهتمام هو حقيقة أن الحقائق لا تُجمع ولا تسجل بشكل سلبي بل تتوضح وتكتسب معنى اعتماداً على ذاكرة الراوي ومن خلال لغته. وعليه فالعمل على المصادر الشفوية يقتضي رسم خارطة طريق معقد يصل ثلاث نقاط مختلفة ولكن مترابطة في الوقت ذاته لإنتاج رواية أو قصة تروي لنا “التاريخ” وهي: حقيقة من الماضي، أي الحدث التاريخي، وحقيقة من الحاضر، وهي الرواية التي نسمعها وكذلك العلاقة دائمة الأمد والمرنة بينهما والتي تنتج عن التفاعل بين الحقيقتين. وعليه فإنّ عمل المؤرخ الشفوي يتضمن:

بيان تاريخي بمعناه التقليدي (إعادة ترتيب أحداث مضت)

بحث أنثروبولوجي (علم الإنسان)، تحليل ثقافي، نقد نصي (تحليل المقابلة)

ودراسة الفضاء فيما بينهما (كيف تنتج أحداث جرت في الماضي هذه الذاكرة وهذه الرواية)

فالتأريخ الشفوي هو تاريخ أحداث وتاريخ ذاكرة وتحليل أحداث نصل إليها عبر الذاكرة والتي هي ليست مجرد مخزن للمعلومات، بل تقوم بعملية مستمرة من التوضيح والشرح ويخضع المعنى فيها لإعادة التركيب والصياغة مراراً وتكراراً.

وفعلياً تتخذ الأحداث معنى وميزة بشكل أساسي من خلال عمل الذاكرة الفردية والجمعية والتفاعل بينهما، والتي تختار أحداثاً معينة من مجموعة الحوادث العشوائية التي تحدث يومياً لتمنحهم معنى. وهذا ما يوجب على المؤرخ القيام بعمل تحليلي للمقابلات للتأكد من مدى مصداقيتها وتدقيق الحقائق بدقة قدرالمستطاع للتفريق بين الروايات الموثقة واقعياً، والتي تشكل الأغلبية، وبين الحالات التي يغلب عليها الاختلاق الأساطير. وبعد ذلك ومن خلال تدقيق الذاكرة وإعادة ترتيب الأحداث يكون بالمقدور قياس أثرتلك الروايات في الخيال الاجتماعي والميدان السياسي المعاصر. ففي بعض الحالات حتى الخطأ والاختلاق وسوء الفهم وحتى الكذب خاصة عند انتشارهم اجتماعياً يصبحون دلائل تاريخية ذات قيمة على الذاكرة والرغبة في الرواية.

والرواية كالذاكرة فهي ليست نصاً ثابتاً بل هي عملية وفعل. فهي خطاب جارٍ قيد العمل ولذا ينضوي عمل التأريخ الشفوي في نطاق الأفعال لا الأسماء: كالتذكر بدلاً من الذاكرة والرواية بدلاَ من القصة. فيها تصف المصادر الشفوية حدثاً جرى في الماضي وليس شهادة من الماضي. والأهم من ذلك أنه عندما ننظر إلى فعل التكلم بدلاً من نتائجه ندرك أن التذكر والرواية لا يتأثران فعلياً بالسياق التاريخي والإطار الاجتماعي للذاكرة فقط، بل أيضاَ بالراوي الفرد ذاته. فالمكان الذي تتوضح فيه الذاكرة هو عقل الفرد، والطريق إليها هو رواية الفرد. لذلك يتحمل الرواة مسؤولية رواية تاريخهم. ونحن بدورنا يتوجب علينا التذكر أنه كما يتحمل الراوي مسؤولية إخبارنا، تقع على المؤرخ مسؤولية فتح فضاء سردي من خلال الاستماع الفعّال لما يرويه الراوي.

العلاقة بين الشفهية والكتابة

تنتج وثيقة التأريخ الشفوي عن عملية حوارية فيما يتخذ عمل المؤرخ  صيغة مقالة مكتوبة غير حوارية. لذا ينبغي عند تقديم نتائج مشروع تأريخ شفوي ترك أثر على الأقل للأصل الشفوي والسردي والحواري للمواد التي تم العمل عليها، وهو ما يتم عادة عن طريق الاقتباس من المصدر. يؤدي الاقتباس للرواة أيضاً إلى الحفاظ على المعاني المتعددة والمعقدة التي تطرحها الرواية الشفوية للقصة. فمن ناحية، نؤكد من خلال الحفاظ  قدرالإمكان في الكتابة على اللهجة التي سردت بها القصة على استحالة الفصل بين معنى الحدث واللغة التي تم التذكر والسرد فيها. ومن ناحية أخرى، يحتوي شكل الرواية دائماَ على طبقات عديدة من المعاني والقراءات التي تفوق أي تحليل منطقي عقلاني. فرغم عدم إحجامنا عن تقديم الفرضيات واقتراح التأويلات إلا أننا نعي حقيقة أنّ المادة التي نقدمها يمكن أن تقرأ دائماً بعدة طرق. فالشفهية إذاً ليست فقط وسيلة للحصول على المعلومات، بل جزء لا يتجزء منها إذ يتجسد الشكل الحواري والسردي للمصادر الشفوية في كثافة وتعقيد اللغة نفسها حيث تنقل نبرة الصوت ولهجة الخطاب الشفوي تاريخ وهوية المتحدثين وتبعث على معانٍ تتجاوز قصد المتكلمين الواعي.

وأهم ما في الطبيعة الحوارية لعمل التأريخ الشفوي أنّه لا ينتهي بانتهاء المقابلة، أوبمجرد نشر البحث القائم عليها، بل يجد طرقاً ليكون ذا فائدة للأفراد والمجتمعات المشاركة عن طريق ما يمكن تسميته عموماً: “التعويض” و “نشرالمخرجات”. فمساهمة المؤرخ في المجتمعات لا تنحصر فقط في جمع القصص والأغاني ولا في نشر المعرفة في المجتمع (والذي لا حاجة له به بما أنه مصدر هذه المعرفة)، بل في التوسع وإيصال معرفة المجتمع ونشر المعرفة خارج حدود المجتمع بهدف نشر وعي للأحداث ومعناها للمجتمع الوطني الأوسع. وما نقصده ب” المجتمع” هنا ليس بالضرورة مجتمع ذو حدود جغرافية معينة، بل مجتمع ذو فعل ومشاعر.

فيمكن للتعويض أن يبدأ من المقابلة نفسها – من خلال إرسال نسخة على الأقل من الشريط للراوي أوعائلته، وهو ما سيكون سهلاً مع تقدم التكنولوجيا وإتاحة فهرس الكتروني للأرشيف أو من خلال تدريس أثر البحث على تاريخ وثقافة المجتمع والذي غالباً ما ينتج عنه وعي متزايد للهوية الثقافية وتسليط للضوء على المشاريع التي يمكن للشباب العمل عليها. وأفضل طرق التعويض هي نشر المخرجات عن طريق الموسيقا والمسرح والإعلام، وإنتاج سلسلة من الوثائق متعددة الوسائط من ديفيديات وسيديات، وتوزيعها على المدارس والمكتبات في المجتمعات المحلية، والاستفادة منها كوسائل تعليمية إضافة للجلسات التدريسية والكتب والمقالات – والتي من شأنها أن تعزز إحساس الناس بهويتهم وترابطهم وضرورة التعبيرعن أفكارهم وأوجاعهم.

خاتمة

وخلاصة هذه المقاربة أننا بحاجة للتفكير في أفضل الطرق للتفاعل مع الناس والمجتمعات عن طريق أفضل المنهجيات الأكاديمية بحيث لا تكون النتيجة الحوارية للعمل الذي ننتجه بشكل مشترك فقط انعكاس لما يعرفه المجتمع مسبقاَ بل نشر أكبر لهذه المعرفة وخرطها في حوار ثقافي أوسع يفرض على العالم أجمع الاعتراف بالرواة وتجاربهم ورواياتهم كجزء لا يمكن تهميشه من التاريخ.

وفي المقابل يجب أن لا ننسى أنّ المتعلم الأول من كل هذا هو المحاور على الصعيد الشخصي والوطني والعالمي ففن الاستماع واحترام الآخر الذي يكسبه المحاور لا يتم إلا من خلال منهج حواري كالمنهج المعتمد في التأريخ الشفوي.


List of References

مراجع عربية

شعبان، بثينة، 2018، ما قبل المقابلات الشفوية : الإعداد والبحث المقابلات: المبادئ الموجِّهة لقيادة المقابلة

English References

Aléx, L, and Hammarström A., 2008, Shift in Power during an Interview Situation: Methodological Reflections Inspired by Foucault and Bourdieu, Nurs Inq, 15, 2, 169-76

Baylor University Institute for Oral History, 2016, Introduction to Oral History, _workshop, available at: //http://www.baylor.edu/oralhistory (accessed on 7/5/2019

Kvale, S., 2006, Dominance through Interviews and Dialogues, Qualitative Inquiry, 12, 3, 480–500, available at: https://doi.org/10.1177/1077800406286235(accessed on 7/5/2019)

Portelli, A., 2005, A Dialogical Relationship: An Approach to Oral History, Expressions Annual, 14, 1-8

Ritchie, D. A., 2003, Doing Oral History: A Practical Guide, 2nd ED, Oxford, OUP

Veale, S., and Schilling, K, 2004, Talking History: Oral History Guidelines, Hurstville, NSW


 iBaylor University Institute for Oral History, 2016, Introduction to Oral History, workshop, available at

(http://www.baylor.edu/oralhistory (accessed on 7/5/2019//

ii For more information, see Aléx, and Hammarström, 2008, and Kvale, 2006

 

المزيد..