مرحلتنا مرحلة كتابة تاريخنا بأيدينا من أفواه من عاشوا التجربة – احتفالية جائزة حكايتي 2020
أسعد الله مساءكم ومرحباً بكم في هذا اللقاء الذي أرجو أن يكون ممتعاً ومفيداًكان من المُفترض أن يكون هذا النشاط قبل عدّة أيام، في الحادي عشر من تشرين الثاني ولكنّ تم تأجيله إلى اليوم لأسباب لوجستيّة وتقنيّة. اختيار التاريخ الأساسي لم يكن صُدفة، لأنه كان يصادف موعد انتهاء الحرب العالمية الأولى…التي كان يطلق عليها في حينها اسم “الحرب العظمى” في الساعة الحادية عشر ظهراً من الحادي عشر من تشرين الثاني عام 1918. في مثل ذلك اليوم عاد آلاف الشباب السوريين إلى بيوتهم وهم ملطّخون بدماء الحرب، بعد سنوات من السيق الإجباري إلى معارك طاحنة في جبهات بعيدة، لم تكن تعنيهم لا من قريب ولا من بعيد، عُرفت شعبياً بالأخد عسكر، حاربوا فيها نيابة عن الجيش العثماني المُحتل. رووا لذويهم آلاف القصص والحكايا المُرعبة والحزينة، عن الموت والدمار خلف جبهات القتال التركيّة…وتحدّثوا عن رفاقهم الذين سقطوا في تلك المعارك، إما رمياً بالرصاص أو عبر شتّى أنواع الأوبئة والأمراض التي عصفت بهم وببلادنا.
كانت الجنائز اليومية مشهداً مألوفاً في دِمَشق وكافة المُدن السوريّة، ولم يسلم منها ومن مرارتها لا بيت ولا اُسرة. ضاعت أحلام جيل كامل من السوريين في حينها، ولعلّ التاريخ يُعيد نفسه ولو بطرق ومسمّيات مُختلفة. فجيش الاحتلال العُثماني ما زال موجوداً، وكذلك الموت المجاني والأمراض.. ففي حينها كان الطاعون والكوليرا واليوم هناك الكورونا، أو الكوفيد 19. أطلقوا على تلك الحرب اسم “الحرب العظمى” وها نحن نعيش حرباً عظمى ثالثة، مسرحها اليوم أرضنا ومعاهدنا ومدارسنا ومشافينا…الفارق الوحيد هو أننا باختلاف عن ذلك الزمان، نحن نقوم اليوم بتسجيل تلك الروايات الشفهيّة وحفظها للتاريخ عبر مؤسسة وثيقة وطن. يا ليتنا كنّا موجودين قبل 100 سنة، لكنّا عملنا جاهدين على ألا تضيع قصص هؤلاء وشهاداتهم ولا تبقى حبيسة الذاكرة الهرمة…ولكنا سعينا أن تُكتب وتُحفظ للأجيال القادمة.
نجتمع اليوم في رحاب مكتبة الأسد لنستمع إلى نبضات من عايشوا عدواناً إرهابياً غير مسبوق على مدنهم وقراهم ومنازلهم وأهليهم فواجهوه بالصبر والثبات والإيمان انهم منتصرون، وأنّ العدوّ هو المندحر لا محالة. واجهوه بالمحبة والتعاون والتراحم والتكاتف، فأصبحوا جميعهم مسلمين وجميعهم مسيحيين وجميعهم حملة القرآن والإنجيل لأنهم أدركوا أن تراحمهم ولحمتهم المجتمعية وعيشهم المشترك هو المستهدف أولاً وأخيراً. علموا أنّ الكنيسة والجامع مستهدفان، وأنّ الإرهاب لا يفرّق بين أبناء الوطن الواحد، فشحذوا أدواتهم المستمدّة من عمق تاريخهم وأصالة تآلفهم، ودحروا الإرهاب والإرهابيين عن معظم الأرض السورية المقدّسة. نجتمع اليوم لنستمع لشذرات من حكايات أبطال مجهولين قاوموا الفكر التكفيري بوعيهم الوطنيّ، وتحدّوا الإرهاب والقتل بالشجاعة السورية المعروفة، وتصدّوا للاستهداف الطائفيّ والعرقيّ كلّ بطريقته، ولكن لهدف واحد سام وهو أن يبقى الجميع بخير وأن يبقى الوطن بخير حتى وإن قضى هؤلاء الذين ضحّوا واستماتوا كي ينقذوا الآخرين.
نجتمع اليوم لنحتفي بكوكبة من مشاريع شهداء وجرحى استكملوا بعزيمتهم وتضحياتهم بطولات الجيش العربي السوري، وتضحيات الحلفاء والأصدقاء الذين صمّموا على ألّا يسمحوا للغزاة وأدواتهم أن يستقرّوا على هذه الأرض الطيبة الطاهرة. نجتمع اليوم لنحتفيَ بمرحلة جديدة ومفهوم جديد للمقاومة والانتماء، ألا وهي مرحلة كتابة تاريخنا بأيدينا وتسطير رواياتنا للأحداث الخطيرة التي مرّت على بلدنا من أفواه من عاشوا التجربة وخافوا وشهدوا وقاتلوا وانتصروا للحياة والبقاء.
نجتمع اليوم لنحتفي ليس فقط بالفائزين والفائزات بجائزة حكايتي لهذا العام، ولكن لنحتفي بالمئات ممن لبّوا دعوتنا لكتابة الأحداث التي شهدوها، ووثِقوا بنا وكتبوا إلينا قصصهم الغالية من كلّ بقاع سورية، ونعدهم جميعاً أنّ كلّ قصصهم ستكون محطّ تقدير واعتبار وتعامل جدّي في وثيقة وطن كي ننسج منها رواية متكاملة تروي هذه الأحداث الجسام، ونترجمها إلى لغات عالمية لتعلّم سورية العالم درساً جديداً في وحدة الأديان ووحدة الشعب ووحدة الوطن ووحدة المصير، وأنّ كلّ من ساهم في هذه التجربة هو فائز لأنه مشارك حقيقي في رواية ما عايشه لأولاده وأحفاده وللباحثين في المدارس والجامعات، ولصانعي الأفلام وكتّاب السيناريوهات الذين سينهلون ممّا نسجله اليوم من تأريخ وتوثيق لكلّ ما عاناه الشعب السوري، ولكلّ وسائل التصدّي التي اجترحها من إيمانه وتجذّره في الأرض وعبق تاريخها.
نجتمع اليوم لنؤكد أننا في وثيقة وطن نعمل على استكمال المعركة العسكرية والسياسية من خلال خوض معركة فكرية ومفهوماتية لا تسمح لدماء الشهداء وآلام الجرحى أن تسقط بالتقادم ولا تسمح لها أن تذبل دون أن تشكّل مشعلاً يضيء درب الأجيال القادمة؛ معركةٍ فكريةٍ لا تسمح للأعداء أن يسجّلوا تاريخنا وأن يسطّروا أكاذيبهم عمّا جرى في بلداننا ويصدّروها للعالم على أنها الحقيقة المطلقة التي لا يرقى إليها الشّكّ. لقد نضجنا اليوم وعلمنا علم اليقين أنّ صناعة التاريخ، سواء أكان عسكرياً أو سياسياً، وحدها لا تكفي، بل من المهمّ الحرص على كتابة هذا التاريخ بأمانة ودقة، وإيصاله إلى الأجيال القادمة وإلى الأعداء والأصدقاء ليكون الوحيد ذا المصداقية الأكيدة الذي يعود إليه الباحثون ليبنوا أبحاثَهم ونظرياتِهم على أساسه. لقد نضجنا واكتشفنا أنّه بعد المعارك العسكرية والسياسية تأتي معركة السّرد، ومعركة الحقيقة، ومعركة الرواية التي سوف تتوارثها الأجيال، وقد تكون هذه هي الأهمّ لأنها هي التي توصل صورة المعارك، كلّ المعارك، إلى الذين لم يشهدوها ولم يعايشوها. أتذكّر أنني حضرت اجتماعاً، أعتقد في إيطاليا، وكان وزير خارجية سورية آنذاك الأستاذ فاروق الشرع، وكان الاجتماع يناقش فكرة المتوسّط حين كانت هناك مبادرة لخلق بنية للدول المطلّة على المتوسط من أوروبية وعربية. وحضر هذا الاجتماع وزير خارجية العدوّ آنذاك، شمعون بيريز، بعد إجراء مفاوضات معقّدة مع الدول الأوروبية، والاتفاق على أمكنة الجلوس، وألّا يكون لوفدنا أيّ احتكاك أو قرب من وفد العدوّ. وقد أبلى السيد وزير الخارجية في ذلك الاجتماع بلاءً حسناً، ودافع عن فكرة أنّ الكيان الغاصب لا يجوز أن يحضر اجتماعات دول مستقلّة، وأن يكون عضواً في هيئة من الدول المستقلّة ذات السيادة، بينما هو يحتلّ الأرض الفلسطينية، وينكّل بسكانها الأصليين. وأذكر أن بيريز ألقى كلمة مقتضبة لم تحتوِ على أيّ ردّ مقنع إطلاقاً، ولم يبدُ حتى مهتماً بتفنيد التهم التي وُجّهت إلى حكومته. وانسحب من الاجتماع بعد إلقاء كلمته. ولكن الاجتماع استمرّ بعد ذلك لساعة أو أكثر، وحين خرجنا جميعاً من الاجتماع بعد انتهائه، وجدنا أنّ كلّ أجهزة الإعلام تتحدث عن قوة المنطق الإسرائيلي في الاجتماع، والنقاش المقنع الذي أداره وزير خارجية الكيان، لأكتشف بعد ذلك أنّ شمعون بيريز انسحب من الاجتماع، وتوجّه إلى خيمة الإعلاميين، وأعطى مقابلات لعدد من وسائل الإعلام، بينما كان جميع المسؤولين الآخرين في الاجتماع. وقال في النهاية: “ليس مهمّا ما يُقال داخل غرفة الاجتماع هناك، ولكن المهمّ ما يُقال هنا في خيمة الإعلاميين.” أيقنتُ حينها أنّ السياسة والإعلام بحاجة إلى دهاء، وليس فقط إلى أصحاب حقّ مطلق، دون معالجة سليمة واتباع أذكى الأساليب لتثبت هذا الحقّ في عقول وقلوب الآخرين.
لم يكن العدوان على سورية إرهابياً وعسكرياً فقط، لكنه كان عدواناً إعلامياً بامتياز، سلاحه منظومة من الأكاذيب والافتراءات تمّ تخصيص مئات الملايين من الدولارات له لغسل العقول الساذجة وشراء الضمائر المهزوزة، وكان بديهياً أنّه من الصعب على سورية مواجهة هذه الحرب الإعلامية بما تقتضي المواجهة من تخطيط وتمويل وترويج، لأنّ أموال الدول الخليجية تكاتفت مع تخطيط وتسويق بريطاني مستخدمين أدوات تلبس لبوساً إسلامياً، وليس لها من الإسلام في شيء، ولم أجد أبلغ من المونولوج الداخلي الذي دار في ضمير إحدى المربيات وهي تدخل بيتها الذي احتلّه المسلحون، وترقب أغراضها العزيزة بين أيديهم، وتقول للطفل الذي يحمل سلاحاً أطول منه: “كيف تدخل إلى بيتي؟! ألم تقرأ في القرآن: “لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلّموا على أهلها”؟ أين أنت من الدين الإسلاميّ الذي تدّعي أنك تمثّله؟” قال لها: “شيخي قال لي”، قالت له: “ومن هو شيخك؟”، قال: “الشيخ عبد القادر”، قالت: “فكّرت لو أني أستطيع أن آخُذَه من هنا إلى صفّ تربوي وأعلّمه أصول الدين، وكذب هذا الشيخ الذي غرّر به، وما يقف وراء ذلك” ولكنها أدركتُ أنّ المعركة صعبة، وأنّ الزمان والمكان لن يسمحا لها بذلك، ورأت في يده ميدالية كانت قد أخذتها من كنيسة مار جرجس، فقالت له: “بأيّ حقّ تمسك ميداليتي هذه؟ لقد أتيتُ بها من الكنيسة.” جال نظرها على لوحاتها، وكتب أولادها، وملابسها، وصورهم، وذكرياتها. ماذا تستطيع أن تنقذ، وكيف، وهؤلاء يعيثون في البيت بقوّة السلاح، حملت قرآنها وإنجيلها وغادرت لأنّ الدقائق المعطاة لها لزيارة بيتها قد انتهت.
في هذه المرحلة من تاريخ المنطقة والعالم تتصدّى الجمهورية العربية السورية ليس فقط لدحر الإرهاب والاحتلال عن أراضيها، وإنما لكتابة تاريخ صادق وحقيقيّ عمّا خُطّط ونُفّذ في هذا البلد أملاً في إزاحته من واجهة محور المقاومة، وإضعاف الأنموذج الذي يقدّمه في قراره الوطنيّ المستقلّ، وأن يصبح بلداً تابعاً مسلوب الإرادة. لكن النتيجة التي مُنيَ بها الخصوم والأعداء هي أنّ محور المقاومة اشتدّ عوداً، وترسّخ إيماناً. إنّ المقاومة أقلّ ثمناً من الاستسلام، وأنّ الطريق الوحيد للعيش بكرامة وحرّية هو أن نكون أسياد هذه الأرض، وألّا نسمح للغزاة والطامعين أن يستقرّوا على ترابها الطاهر. أعلم أننا نتصدّى لمشروع وطني كبير يحتاج إلى المؤمنين به، والمتطوّعين لخدمته، وإلى سنوات ربما، ومئات الباحثين ليكشفوا عن كلّ أوجهه التعليمية والثقافية والفنية المحتملة والممكنة وما كان لنا أن نفعل ذلك لولا مباركة السيد الرئيس بشار الأسد لهذا المشروع أولاً ولولا حماس واندفاع مجموعة من الباحثين والباحثات المؤمنين بهذا الوطن وعزّته، ولولا دعم الذين آمنوا بالفكرة وبضرورة إنضاجها وتغذيتها بكلّ السبل الممكنة.
أتمنى أن أتقدّم بالشكر الجزيل إلى كلّ من أسهم أو مثّل لبنة في بناء مشروعنا هذا، ولكن الوقت يحول دون هذا، ولكن اسمحوا لي أن أخصّ بالشكر الأستاذ مازن الترزي الذي آمن بأهمية الفكرة منذ ولادتها وقدّم لها كلّ الدعم والمساندة. كما وأتقدّم بالشكر من اتحاد الإذاعات والتلفزيونات الإسلامية الذي لم يبخل علينا يوماً بتقديم المؤازرة والتدريب وجزيل الشكر لجمهورية الصين الشعبية ممثّلة بسفارتها التي ساندت المشروع ودعمت خطواته.
كما وأشكر وزارة السياحة ومكتبة الأسد الوطنية على مساهمتهم في إنجاح هذه الفعالية.وكلّ الشكر لأعضاء فريق وثيقة وطن جميعهم؛ من باحثين ومتطوّعين ومفرّغين ومدخلي بيانات وفنيين ومساعدين، وللسادة أعضاء مجلس الأمناء، ولكم جميعاً على دعمكم وحضوركم الذي نعتزّ به، ونأمل أن تكونوا دائماً معنا في القلب والوجدان مُرّحبين بأفكاركم ومقترحاتكم وإضافاتكم لما فيه خير بلدنا ومستقبل أجيالنا.
رئيسة مجلس الأمناء الدكتورة بثينة شعبان