التحوُّل من التاريخ الشفويّ إلى الأرشيف الشفويّ

ترافقت عودة الاهتمام بالتاريخ الشفويّ في أوروبا بتساؤلات جوهريّة حول الذاكرة والهويّة والوعي القوميّ والوطنيّ، وغذّى ذلك الاحتفال بذكريات عديدة لتاريخ علماء وفنّانين أسّسوا النهضة والأنوار الأوروبيّة، وخاصة بمرور قرنين على الثورة الفرنسيّة. وبدأت المؤسّسات والشركات، هي أيضاً، تتساءل في لحظة الذاكرة هذه عن هويّتها وتاريخها. ومنذ بداية الثمانينيّات، بدأ الجميع يتساءل حول المستقبل، فزاد الاهتمام بالماضي والبحث في الذاكرة والتاريخ الخاص، وبفهم معمَّق لهما.

 

أدّى ذلك إلى تطوّر تأريخ الشركات والمؤسّسات في المؤسّسات نفسها، وتضاعف عدد الجمعيّات واللجان المختصّة بالتاريخ الشفويّ في كبرى الإدارات وفي الوزارات أيضاً في الدول الأوروبية. ولعبت هذه الأخيرة دوراً هاماً في دمج الأرشيف الشفويّ في التراث المؤسّساتيّ، وفي الدمج النهائيّ لأرشيفها ضمن المصادر التاريخيّة. وتُعَدّ هذه المرحلة فاتحة العلوم الجديدة التي اختصّت بالأرشفة الشفويّة وقواعد المعطيات الناتجة عنها والتأسيس لعلم الأرشيف الشفويّ المعاصر.

يمكن القول إن إعادة إدخال المصدر الشفويّ في الدراسة التاريخيّة، تمّ التحضير له عبر فترات طويلة، وبشكل معمَّق، عبر زعزعة الأسس الفلسفيّة والإبستمولوجيّة “العلمويّة” التي كانت تؤسِّس للمدرسة التاريخيّة الفرنسيّة، وذلك في شقَّيها: التاريخ التقليديّ المسمّى “الوضعيّ” أو “المنهجيّ”، والتاريخ الكمّيّ المعروف بالحوليّات. وأدّت النقاشات والجدالات، التي تطوّرت منذ نهاية الستينيّات، في مجال فلسفة التاريخ، إلى إعادة تقويم روايات الرواة وكلماتهم، وردّ الاعتبار للشهود الفرديين في القراءة التاريخيّة.

جاء التحوّل الكبير في دراسة التأريخ والأرشيف الشفويّين، في العقد الأخير من القرن العشرين، مع تقديم عدّة أطروحات أكّاديميّة لمناهج بحث ارتكزت على مشاريع واسعة أو على دراسة محدَّدة لجانب من مجالات التوثيق الشفويّ (المنهج، التجهيزات التقنيّة، البرمجيّات، التصنيفات…). من جهة أخرى، كان لارتباط التوثيق الشفويّ بهيئات للتاريخ الشفويّ عظيم الأثر في إنتاج مراجع ودراسات بحثيّة وتوصيفيّة وتاريخيّة حول الأرشفة الشفويّة، الأمر الذي عزَّز في النهاية جذب هذا التيّار التاريخيّ للجامعات والبحوث الأكاديميّة.

ويمكن القول إن العقد الأخير من القرن العشرين شهد نسبيّاً وضع الأسس النظريّة والتطبيقيّة للتوثيق الشفويّ، ومهّد بذلك لإعلان اليونسكو في العام 2003 عن لائحة التراث اللاماديّ والشفويّ للعالم.

ومع تعدّد المدارس والاتّجاهات الحديثة في التأريخ الشفويّ المعاصر، فإنّ كافة هذه المدارس تتّفق على أهميّة الآليّات الرئيسيّة التي تمّ التوصّل إليها، حتى الآن، في جمع وتوثيق وأرشفة وبناء قواعد بيانات للذاكرة الحيّة.

المزيد..