التـأريخ الشفويّ.. المفهوم

الدكتور محمد الطاغوس

المفهوم والمسوّغ الإبيستمولوجي:

التاريخ الشفويّ مجال بحثيّ خاص ومنهجيّة ومنظور عامّان وشاملان في التأريخ. تأتي عموميّة هذه المنهجيّة وهذا المنظور من كونها استجابة لمتطلّبات اتّساع حقول البحث التاريخيّ اتّساعاً لا حدود له، ليشمل كافة جوانب نشاط الإنسان وفاعليّاته، كما أنها تلبية للمتطلّبات المعرفيّة التي فرضها المعنى الجديد للتاريخ. أما خصوصيّة المجال البحثي، فتأتي من آليّة عمله التي تقوم في المرحلة الأولى على رصد أحداث الماضي القريب والمستمر من خلال استجواب أو استحضار منهجيّ مسجّل لذاكرة وشهادة أشخاص، عاشوا وشاهدوا هذا الماضي أو شاركوا في صنعه، وحفظ أثر هذا الاستجواب بواسطة أدوات تسجيل يدويّة وآليّة وإلكترونيّة، سمعيّة وسمعيّة بصريّة، لتسعى في المرحلة الثانية إلى تحويل هذه الشهادات إلى وثائق ومصادر تاريخيّة شفويّة، تتيح في المرحلة الثالثة تكوين أرشيف شفويّ مكمِّل تارّة ومنافس تارّة أخرى للأرشيف الرسميّ المكتوب ومصادره ووثائقه. إن برنامج عمل التأريخ الشفويّ بكل مراحله يسير وفق منهجيّة البحث العلمي المعتمَد في مباحث العلوم الإنسانيّة، من مراجعة وتحليل ونقد وتقييم وتصنيف، وصولاً إلى تقديم رواية متّسقة عن التاريخ، وتقديم شهادات تشكّل مصدراً للبحث والتحليل أمام الباحثين المعاصرين أو المستقبليّين.

هذا التوصيف التقنيّ للتاريخ الشفويّ بوصفه مجالاً خاصّاً في البحث التاريخيّ، يحجب وراءه دلالة ومعنى عميقين للتاريخ عموماً، وللتاريخ الشفويّ منه بشكل خاص. وقد تصل هذه الأهميّة في الدلالة والمعنى لدرجة اعتبار هذا النوع من التاريخ نقلة نوعيّة في ميدان الأبحاث التاريخيّة. وذلك لما يتضمّنه من مراجعة شاملة للقناعة التي عمل بها التاريخ بمعناه الرسميّ والأكّاديميّ، وللنظريّة التي كوَّن من خلالها موضوعاته. إنّه مراجعة للقناعة بوجود واقع تاريخيّ موضوعيّ وثابت ومكتمل يمكن التقاطه، بتمامه ودفعة واحدة وإلى الأبد، بواسطة الوثائق المكتوبة. وكذلك هو مراجعة للنظريّة التاريخيّة الوضعيّة الموضوعيّة التي تشكّك في كل ما هو غير مكتوب، باعتباره مجرّد ثرثرة ذاتيّة بلا أهميّة أو بلا موضوع.

إن تكوين التاريخ الشفويّ لوثائق حيّة عن زمن مضى، عبر شهود على فترة زمنيّة سابقة، مثّل بهذا المعنى اختباراً لتاريخانيّة التاريخ. فمنذ اللحظة التي انفتح فيها التاريخ على دراسة مجموعات اجتماعيّة لم تكن ضمن دائرة اهتماماته، واجه واقعين مرهفين:

• أن هذه المجموعات لا تدخل طواعية في الأطر الوصفيّة للنماذج التفسيريّة الأكثر شهرة في الحقل التاريخيّ؛

• أن المصادر المكتوبة التي بني عليها التاريخ، لم يكن لديها إلا القليل لتقدّمه من أجل إغناء معارفنا بخصوص تلك المجموعات.

لملء تلك الثغرات في الوثائق ولفهمٍ أعمق للعبة الروابط الاجتماعيّة في كل أبعادها، كان لا بدّ من اللجوء إلى المتاح من الشهادات الشفويّة للمشاركين الحقيقيين في هذه اللعبة.

لا يقف السبب في اعتماد الوثيقة الشفويّة مصدراً للكتابة التاريخيّة العلميّة عند هذا الحدّ، بل يمتدّ ليشمل مستجدّات ذهنيّة وفكريّة ومعرفيّة واستحقاقات حقوقيّة وسياسيّة وإنسانيّة، أدركها وعي إنسانيّ جديد بالتاريخ وبمعنى التاريخ. بل أدركتها استعدادت معرفيّة جديدة تبحث في ما يختزنه الإنسان من عواطف وذاكرة وقدرات، وكذلك من احتمالات عزل وطمس لهذه الذاكرة أو إلغاء ونسيان لها.

يمتلك هذا اللجوء إلى الشهادات الشفويّة مسوّغات معرفيّة متعدّدة، تخوّله طرح مفهوم جديد للتاريخ ينكر من خلاله إمكانيّة وجود للتاريخ، بالمعنى الكامل، قبل العمل البحثي الذي ينتجه بأمانة. من هذا المنظور، يبقى التاريخ دراسة للماضي، لكن ليس ذاك الذي مضى تماماَ، بل ذلك الذي نستطيع معرفته ضمن حدود فعل المعرفة. وهذا يعني بدوره، تحوّلاً في طبيعة الوثيقة والمصدر وفي مهام المؤرِّخ. إن إدراكنا بأننا معنيّون فقط بما نستطيع معرفته عن الماضي، يحوّل مهمّة المؤرّخ من تشكيل الوقائع إلى محاولة فهمها، ومن حصرها في الإطار النصيّ والمعلوماتيّ إلى متابعة تشابكاتها وتفاصيلها المغيّبة أو المهمَّشة، وذلك عبر الصيرورة متعدّدة المراحل، من إنتاج الوثيقة إلى تحليلها وتوطينها في سياقها التاريخيّ. من هذا المنظور، تصبح الوثيقة الشفويّة الأقدر على القيام بمثل هذه الوظيفة وليست تلك المدوِّنة للحدث فقط أو المشكَّلة وفق منظور محدَّد أو خاص. فالوثيقة التي تسمح بفهم الحدث من الداخل، ليست فقط هي الوثيقة المكتوبة والرسميّة، بل كل وثيقة ممكنة، ومنها الوثيقة الشفويّة. هذه الوثيقة ستصبح مصدراً تاريخيّاً، لأن المصدر لم يعد إلا الرؤية التي يحملها صنّاعُه عن تاريخهم الخاص. فالأحداث لم تعد مجموعة من الأشياء والموضوعات المنسّقة والموجودة فعليّاً، بل سلسلة من العلاقات المتداخلة التي يعالجها المؤرِّخ عبر مقاطعة معطيات الوثائق المختلفة، بغية صياغة الحبكة التي يريد أن يقيم عليها روايته.

هذا الفهم للتاريخ، روايةً من جهة ووثيقةً من جهة ثانية، وهذا الارتباط بفهم الأفراد للسياق الذي اندمجوا فيه والمعنى الذي يعطونه لأفعالهم عبر توثيقه، يفرض إعادة تقييم للرواية الفرديّة، ويدفع باتجاه إعطاء الكلمة للفاعلين أنفسهم ليشرحوا وجودهم المعاش، ويُدخِل النسبيّة العلميّة إلى التاريخ من أوسع أبوابه، ليتيح قبول الشهادات الشفويّة، كجزء أساسيّ من وثائق التاريخ وكمصادرَ مناسبة لموضوعات متعدّدة، ولا سيّما المرتبطة بالذاكرة والتمثّلات، وبالتالي إعادة بناء السياق التطوّري للمفاهيم والعلاقات الإنسانيّة وفق أنساق ومرجعيّات تأريخيّة متعدّدة. إنها النسبيّة التي تعكس التعقيد الفائق للمشكلة البشريّة، والتي لم تعد تتيح الحذف الموضوعي لما هو ذاتي، باعتباره تشويشاً للمعرفة العلميّة، كما لا تتيح، بالمقابل، الحذف الميتافيزيقي لما هو موضوعي، باعتباره يذوب داخل الذاتيّ والمعاش والفرديّ. وهي، في هذا وذاك، تؤكّد على أن العالم موجود في فكرنا وذاتيّتنا، الموجودين بدورهما في العالم، بتداخل وحوار لايقينيّات، تصحّح بعضها بعضاً، دون أمل بسدّ الثغرة نهائيّاً بواسطة اللصاقة الأيديولوجيّة.

مع هذه النسبيّة، يغدو التاريخ الشفويّ تاريخاً للأحداث وللذاكرة معاً، ومراجعة للأحداث عبر موشور الذاكرة، عبر تفاعل لا حدود له بين ذاكرة ثقافية عن الأصول وتحقيق عابر للأزمنة؛ ذاكرة تسعى لتلبية مطلبٍ عاطفيٍ عميق، وتحقيق يعكس حالة فكريّة نقديّة؛ ذاكرة تحيي بعض وقائع الماضي، وتحقيق يعيد بناء هذا الماضي انطلاقاً من أسئلة الحاضر؛ ذاكرة تبحث في هويّة الأفراد والجماعات، وتحقيق يسعى لتبيان حقيقة الرواية البشريّة ووحدتها أو حتى تنوّعها وتعدّدها؛ ذاكرة تناضل ضد النسيان، وتحقيق يكثِّف الرؤية.

مهام التاريخ الشفويّ:

• تبدأ أولى مهام التاريخ الشفويّ بسدّ ثغرات المصادر التاريخيّة المكتوبة. وهو لذلك يفترض في هذه النقطة وجود وثائق مكتوبة، بيّنت أعمال سابقة وجود ثغرات مهمّة فيها. يقترح التاريخ الشفويّ ملء هذه الثغرات بالشهادات المحصّلة من أشخاص شاركوا في أحداث معينة أو عاصروها وشهدوها. هذه الوثائق تخضع بدورها للنقد النصيّ والتحليل الدقيق نفسه الذي تخضع له مضامين الوثائق المكتوبة. ترتبط هذه المهمّة بأبعاد مقصودة في المباحث الاجتماعيّة والأنثروبولوجيّة وعلم النفس واللسانيّات وعلوم أخرى، وتؤكد على ضرورة التفاعل وفتح آفاق العلاقة بين التاريخ وهذه المباحث والعلوم. فهي جميعها تمسّ الروابط الاجتماعيّة وديناميّات الثقافة التي تمثّلها. إن تسجيل هذه الروايات أو الشهادات يعني نقلاً للتمثّلات والديناميّات الحيّة والمتطوّرة التي تعطيها الثقافة عن نفسها، خلال حقبة زمنيّة محدَّدة.

• إضافة إلى المهمة التكميليّة الأولى، يأتي التاريخ الشفويّ منافساً وناقداً للتاريخ الرسميّ والأكّاديميّ،

الذي ارتبط حصريّاً بالجوانب السياسيّة والعسكريّة أو الدينيّة ونخبها. هذا الارتباط الحصريّ، أبقى جزءاً كبيراً من الوقائع والأحداث الحياتيّة، في كل المجالات، في الظلّ، أو يشار إليها على نحو عرضيّ، لدرجة تُفقِدها قيمتها في التاريخ الاجتماعيّ، وتغيّب شرائح كاملة، غدت مجهولة تماماً في الوثائق المكتوبة، بفعل انتقائيّةٍ، بمزاعم بيروقراطية علميّة. مقابل هذا التغييب والتهميش والانتقائيّة، تتوضّح وتبرز مهمّة التاريخ الشفويّ في دمقرطة التاريخ وفعل التأريخ. إنه يدعو إلى تكوين تاريخ ديمقراطي، يكون فيه الناس، كل الناس، مدعوّين للاشتراك والمساهمة في كتابة التاريخ، عبر تسجيل شهاداتهم ورواياتهم. فالتاريخ الشفويّ، في هذا الخصوص، ليس مجرّد أداة ومنهج فقط لإعادة بناء الماضي، لكنّه نظريّة تعبّر بعمق عن الالتزام السياسي بالتاريخ من القاع، وتؤكّد على أن الناس العاديّين والمهمَّشين والمسكوت عنهم، لديهم أيضاً تاريخ، وأن هذا التاريخ لا بدّ أن يكتب. كذلك يقع التاريخ الشفويّ على الخطوط الأماميّة لديمقراطيّة إطلاع الأجيال اللاحقة على شهادات وذاكرة الأجيال التي سبقتها، بمن فيهم النخب، في كل المجالات، السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة والإداريّة، عبر تسجيل تفصيليّ شفويّ للتاريخ الواقعيّ والعقليّ الذي يخطّ تطوّر مسار حياة هذه الشخصيّات.

• تقوم المهمّة الثالثة للتاريخ الشفويّ بإتاحة الفرصة لإعادة تأويل الحدث التاريخيّ وتوسيع مضامينه، لأنه حينما يوثّق كيف عاش الناس أحداثاً من الماضي وكيف فكّروا فيها وفهموها، فهو يريد التأكيد على أنّ ما يعتقده الناس بخصوص حدث ما، هو بحدّ ذاته حدث تاريخيّ تُرجِم إلى سلوكات وأفعال ورودود أفعال. خلف هذا النوع من الأحداث، يقبع مسار تطوّر وقرار لا بدّ من أخذه بعين الاعتبار من أجل فهم أفضل للانقطاع والاستمرار اللذين يشكّلان لحمة التاريخ. هنا أيضاً يمثّل التاريخ الشفويّ من جديد مراجعة للبديهيّات الكلاسيكيّة في التاريخ، من خلال التأكيد على أنّ الوثائق المكتوبة ليست حياديّة وعلى أنّ غيابها في كثير من الحالات أو السكوت عنها ليس مصادفة، وعلى أن المكتوب ليس أكثر موضوعيّة من الشفويّ،

لأنه في كثير من الحالات ليس المكتوب إلا الشفويّ المتضمّن إدراك الأحداث التي لدى المؤرِّخ.

• يأتي التاريخ الشفويّ كذلك تعبيراً عن إرادة واعية في وقف هدر تجارب و حيوات إنسانية شاهدت أو عاصرت أو شاركت في أحداث مضت ولم تلقَ على الأغلب اهتماماً من أجيال لاحقة. هذه الإرادة تعبّر أيضاً عن مراجعة نقديّة تعويضيّة وعلاجيّة للتجاهل التعسّفي لقطاعات مهمّة في المجتمع، أُهمِلَت من المؤرّخين.

• يسهم التاريخ الشفويّ في صياغة تاريخ الزمن الحاضر عبر رصده للوقائع والاحداث والمعلومات الحاليّة والراهنة والمرشّحة لأن تعكس ملامح العصر الحاليّ، سواء وجد عنها وثائق أو لم يوجد.

• يعمل التأريخ الشفويّ من جهة أخرى على بناء أرشيف شفويّ. فليس التأريخ في النهاية هو تدوين حكاية أو سيرة أو حدث، ولا جمع شهادات شفويّة حول ذلك، بل هو في المنظور الأعمق، إتاحة الفرصة لبناء ذاكرة مسجّلة ومتاحة للبحث والتنقيب والتحليل أمام الأجيال القادمة، وهو بذلك يعزّز المنظور المعرفي المتطوّر مع الزمن، والرؤية للتاريخ خارج إطار التحديد والتأويل النهائيّين.

العوامل الموضوعيّة لتطوّر الاهتمام بالتاريخ الشفويّ:

1- التحوّلات والتغيّرات التي عانتها عدّة مجتمعات عبر العالم، في مختلف المجالات السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والتقنيّة، حملت معها قناعة تفرض نفسها مع الزمن، ومفادها: إن التحكّم بالتاريخ لم يعد محصوراً بالنخب الخاصة والمهيمنة. من دون شك، فإنّ المعلومة/الخبر رهن بالصراعات السياسيّة، لكنها لم تعد قابلة للاحتكار من بعض الناس فقط. في عالم وجَدت فيه قطاعات كبيرة من الناس مداخل متعدّدة للحصول على المعلومة، لم يعد من الممكن للتاريخ أن يبقى حكراً على الرسميّ والأكّاديميّ المهيمن. إن تطوّر وسائل الاتصال للكتلة الأكبر من الناس العاديّين، جعلهم غير قابلين فقط لتلقّي الأخبار واستهلاك المعلومات، بل دفَعَهم للمشاركة في صناعتها وتنظيمها ونشرها. وبهذا السياق، لم يعد المؤرّخون هم المتخصّصين الوحيدين المسؤولين عن تأويل التاريخ، وهم ليسوا الوحيدين المخوّلين لكتابة التاريخ.

2- العامل الثاني، الذي ساهم في ولادة التاريخ الشفويّ وتطوّره، هو سلسلة الاكتشافات التي أفرزتها الثورة التكنولوجيّة في الوسائط السمعيّة والبصريّة، والتي لولاها لما كان التوثيق الشفويّ ممكناً ومتاحاً.
3- العامل الثالث هو الطاقة والدقّة والمخيّلة المبدعة لدى بعض المؤرّخين، الذين أدركوا أهمية الشهادات والذكريات، المسجّلة بدقة ومنهجيّة، في مسار العمل التاريخيّ.

4- من العوامل أيضاً تأتي حركة التأليف والنشر عن التاريخ الشفويّ والموجّهة للرأي العام، باعتبار أن الجميع، وليس فقط المتخصّصين، معنيّون بتكوين هذا التاريخ. يمكن التمييز في حركة التأليف هذه بين قسمين، الأول معنيّ بالمؤلّفات والدراسات التي تهدف إلى نشر الوعي العام بأهميّة التاريخ الشفويّ وثقافة التوثيق الشفويّ، وتشرح مجالاته وآليّاته وتبيّن مضامينه العميقة؛ أما القسم الثاني، فيشمل على الدراسات التي تقدّم أمثلة عمّا يمكن أن يقدّمه التاريخ الشفويّ، وتبيّن أهمّيته للأبحاث والعلوم الإنسانيّة، مثل كتاب ستوديز تركويل عن “أزمة 1929” الذي قدم النَصّ المكتوب عمّا حدث استناداً لشهادات شفويّة، وكتاب ألكس هالي بعنوان “جذور”، بوصفه أوّل تاريخ متّسق للعائلة الأمريكيّة السمراء.

المزيد..